"النجوم الخمس" والبحث في الاتجاه الخاطئ عن صفقة "رائعة"
قبيل انطلاق القمة الأفريقية الـ32 في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا تبرز قضية صراع المصالح الفرنسي الإيطالي في ليبيا.
الصيحة الخالدة: «إنه الاقتصاد يا غبى»، تقدم تفسيرا قويا لاندلاع الخلافات أو الصراعات السياسية بين الدول، وبين القوى الكبرى التي لها مصالح متعارضة في دولة من الدول، بل وداخل الدولة ذاتها، بشكل عام، بيد أن التفاصيل ومعها الآليات، التي يتم بها إدارة تلك المصالح، والقوى الاجتماعية التي ترعى هذه المصلحة أو تلك، والخطاب الساتر الذي تختفي وراءه تلك المصالح، تبقى الأهم.
قبيل من انطلاق القمة الأفريقية الـ32 في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا تحضر بقوة قضية الصراع الغربي في أفريقيا، كواحدة من أهم التحديات التي تواجهها القارة السمراء، وتبرز قضية صراع المصالح الفرنسي الإيطالي في ليبيا كواحدة من هذه الصراعات.
وكما هو معلوم فقد خرج نائب رئيس الوزراء الإيطالي، وزير الداخلية، ماتيو سالفيني، منذ أيام، متهما فرنسا بأنها لا ترغب في تهدئة الأوضاع في ليبيا التي يمزقها العنف بسبب مصالحها في قطاع الطاقة، وتعارض المصالح النفطية مع إيطاليا، وأكدت وزيرة الدفاع الإيطالية أن شخصا ما، في عام 2011، (تقصد ساركوزي رئيس فرنسا وقتذاك) وضع مصالحه الخاصة قبل مصالح الشعب الليبي وأوروبا نفسها.
وردا على تلك التصريحات وأشباهها، قالت «ناتالي لوازو» الوزيرة الفرنسية المكلفة بالشؤون الأوروبية، إن «فرنسا لن تشارك في مسابقة الأكثر غباء»، ووصف مكتب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، التصريحات الإيطالية بـ"السخيفة".
عمليا فإن الاقتصاد والمصالح المالية أو النفطية لا تكشف نفسها بوضوح، خاصة في بلد مثل ليبيا، استحوذ شخص وحيد فيه طوال 40 عاما على كل أسرار التعاملات الدولية لبلده، ما ترك اختلالات يصعب جسرها حتى الآن، كما أن تعقيدات الموقف في ليبيا حتى من الناحية الاقتصادية تحتاج إلى نظرة معمقة لنفسر لماذا اندلاع النزاع الآن وإلى أين وما دور الولايات المتحدة الأمريكية في إشعال أو تهدئة خلاف القطبين الأوروبيين هناك؟
المصالح النفطية تعنى بوضوح أننا نتحدث عن «إيني» الإيطالية مقابل «توتال الفرنسية» والطريف أن نظرة على موقعي الشركتين على الإنترنت توضح أن القيم التي تتبناها كل منهما حيال المستثمرين والعملاء والمستهلكين للطاقة والموردين والعمال والبيئة والدول واحدة تقريبا، وكلتاهما تتحدث عن النزاهة والمصداقية والالتزام بالاستدامة وحقوق الإنسان والشراكة المربحة والعادلة وتقاسم القيم والأهداف وتشجيع التعاون والحوار مع المجتمعات المحلية.
وواقعيا فإن لإيني 33 ألف عامل يعملون في 71 دولة حول العالم، بينما يبلغ عدد العاملين في توتال 100 ألف موظف يعملون في 130 دولة، ومن الطرائف أن لإيني وجودا أفريقيا قويا، وهي التي تتهم فرنسا بممارسات استعمارية في الدول الأفريقية، ويبلغ عدد عمال إيني في نيجيريا 1177 وفي تونس 469 وفي ليبيا 144 والجابون 16 والكونغو 567 وأنجولا 364 والجزائر 99 وتونس 469 وبشكل عام يعمل في أفريقيا 10.3% من إجمالي عمالة إيني في العالم. أبعد من ذلك فإن لإيني في بريطانيا 898 عاملا، وفي فرنسا ذاتها 795 عاملا وفي أمريكا 397، ولها أعداد كبيرة جدا في المجر وتركمانستان –تفوق الألف في كلتيهما– وفي إندونيسيا والعراق وكازاخستان ولها في فنزويلا 133 عاملا.
وطبقا لبيانات مارس 2018 فإن القيمة السوقية لإيني بلغت 64 مليار دولار، بينما بلغت 316 مليارا لإكسون موبيل و263 لـ«شل»، و149 لـ«توتال»، وبلغت مبيعات توتال خلال 2017 نحو 171 مليار دولار، أي أكثر من ضعف مبيعات إيني.
- المسماري: قطر دفعت للجضران 11 مليون يورو للهجوم على الهلال النفطي الليبي
- قائد ليبي لـ"العين الإخبارية": مستعدون لصد أي هجوم على الهلال النفطي
وقد يرى المحلل أن البيانات السابقة تعكس من ستكون له الغلبة على الأرض في ليبيا. لكن التاريخ القريب يقدم أبعادا أخرى، فقد نجح سيلفيو برلسكونى رئيس وزراء إيطاليا الأسبق مع الرئيس الليبي السابق معمر القذافي في الوصول إلى اتفاق منذ 2008 لتحفيز عمل إيني في إيطاليا، ونقل الغاز الليبي في أنبوب إلى الأخيرة وتعويض ليبيا عن سنوات الاستعمار، وبدأ العمل بالفعل قبل أن تتغير الأحوال باستقالة حكومة برلسكوني وقتل القذافي في وقت متقارب من 2011. في 2010 كان ساركوزي يسعى لإبرام اتفاق بقيمة 5 مليارات دولار لصالح توتال في ليبيا، غير أنه لم يتم، ثم جاءت أحداث تدخل الناتو ودور فرنسا الواضح في تصفية القذافي بدعوى منعه من التقدم إلى بنغازي وقتل الثوار. هذه الخلفية توضح وجود نوع من الشعور لدى الإيطاليين بوجوب مد مشروعية الاتفاقات السابقة إلى الحاضر، خاصة أن إيني عمليا تتحكم في أغلب إنتاج ليبيا من البترول، كما أن إيطاليا تعتمد في استهلاكها النفطي على نحو 48% ما يردها من ليبيا و40%من الغاز كذلك، وهي اعتمادية خطرة كما نرى.
إيطاليا، كما تقول كل المصادر السياسية، التي يعتد بها تأخرت كثيرا عن التدخل في الأحداث في ليبيا عام 2011، واكتفت بالتسليم للناتو بالدور الرئيس، وذلك يفسر النشاط الزائد الحالي للطليان كنوع من التعويض عن التأخر من ناحية، كما أنه يستجيب لنزعة اليمين الشعبوي –الحاكم في إيطاليا الآن، ممثلا في حركة الخمس نجوم– في مهاجمة ماكرون كرمز للتمسك بالاتحاد الأوروبي ومناهضة الحركات القومية الصاعدة ومنها النجوم الخمس، فضلا عن أن ضغوط الأزمة المالية على إيطاليا لا تترك لحكومتها الجديدة سوى البحث عن موارد إضافية خارجية وبأي ثمن، بيد أن الخطأ الجوهري في محاولة التعويض الإيطالية هو الرهان على جماعات التطرف وقوى طرابلس ما يخالف تاريخيا النهج الإيطالي في رؤيتها لتلك القوى من قبل (إيطاليا لم تكن في يوم كإنجلترا أو تركيا مثلا)، ويعاكس الزمن حيث تتنصل قوى عديدة –على رأسها الولايات المتحدة– من هذه التيارات في الوقت الحالي، كما نرى بوضوح، بل تشدد النكير على إيران من منطلق أنها أخطر مخزن للقوى التي تستخدم الدين لتحقيق أهداف استراتيجية وسياسية.
نعود إلى الاقتصاد، فليبيا استوردت من إيطاليا ما قيمته 1.23 مليار دولار خلال عام 2017، لكنها استوردت من فرنسا فقط ما قيمته 182.4 مليون دولار في ذات العام وكان ثلث المبلغ مقابل أدوية.
واستوردت إيطاليا من ليبيا ما قيمته 3.14 مليار دولار كلها تقريبا بترول وغاز ومشتقات وزيوت معدنية ووقود، واستوردت فرنسا من ليبيا بما قيمته 1.56 مليار دولار، أكثر من 95% منها نفط ومشتقات أيضا. وقد بلغ إجمالي صادرات ليبيا في ذلك العام أكثر من 19 مليار دولار. وبهذا الشكل أيضا يظهر أن تعقيدات المصالح الليبية الإيطالية أبعد منها عن فرنسا.
من جانب آخر، بلغت واردات فرنسا من إيطاليا نحو 147 مليار دولار في 2017 واستوردت إيطاليا من فرنسا بما قيمته أكثر من 39 مليار دولار، ما يوضح قوة التشابك الاقتصادي بين البلدين، ولذا ليس من الوارد أن يذهبا بعيدا في احتكاكهما الخشن في ليبيا. وغاية ما هنالك، كما يقول البعض، إن السياسيين الجدد في إيطاليا يجربون نهجاً ترامبياً (نسبه إلى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب) قوامه: اهجم. اهجم. اهجم، فقد تحصل في النهاية على صفقة "رائعة".
وحسب موقع «ستراتفور» فإن هناك كثيرا مما تتفق عليه فرنسا وإيطاليا عندما يتعلق الأمر بليبيا: فكلتاهما تريد تحقيق الاستقرار في البلاد حتى لا تصبح ملاذا للإرهاب أو ساحة للمهاجرين الأفارقة، وكلتاهما ترغب في منع الحكومتين المتناحرتين هناك من محاربة كل منهما، لكن لديهما رأيين مختلفين للغاية. جمعت فرنسا أبرز اللاعبين الليبيين في مؤتمر في شهر مايو 2018، وأقنعت باريس الفصائل المختلفة بإجراء انتخابات في 10 ديسمبر.
روما، في المقابل، لا ترغب في إجراء أي انتخابات في تلك المرحلة حيث ترى أنه لا يمكن إجراؤها في ظل حرب أهلية وبمعنى آخر فإنها تخشى أن يبوء حلفاؤها الإخوان هنالك بالخسران.
خططت روما لعقد مؤتمرها الخاص حول مستقبل ليبيا في باليرمو، كما نعلم، وحاولت تعويض اندفاعها باتجاه تأييد الإخوان وبعض جماعات الإرهاب وحكومة فائز السراج بدعوة المشير خليفة حفتر، وجرى ما جرى وحال وجود قطر وتركيا والتمثيل الزائد لجماعات العنف المتسترة بالدين دون نجاح المؤتمر.
وكان اتحاد أرباب العمل الفرنسي «ميداف» قد قدر، في سبتمبر 2011، تكلفة إعادة بناء ليبيا بنحو 200 مليار دولار على الأقل على مدى 10 سنوات.
ومع بداية عام 2017 وقعت شركة «توتال» الفرنسية 3 عقود جديدة على الأقل، وضخ استثمارات بقيمة 450 مليون دولار في الحقول الليبية.
كما وقعت شركة الخدمات النفطية الفرنسية «تكنيب» خلال 2016 اتفاقا بقيمة 500 مليون دولار مع «كونسورتيوم» يضم المؤسسة الوطنية للنفط الليبية وشركة «إيني» الإيطالية للنفط والغاز لتجديد منصة نفطية بحرية.
كما تسعى فرنسا ماكرون للحصول على حصتها ونصيبها في قطاعات الإسكان والكهرباء والحديد والصلب والأسمنت والصناعات المختلفة والاتصالات والمواصلات وغيرها من القطاعات التي تحتاج إلى إعادة بناء في ليبيا.
لإيطاليا هي الأخرى طموحات أولها في غاز ليبيا على شاطئ غرب طرابلس، الممكن استخراجه حتى قبل ترسيم الحدود البحرية، وفي إقامة صناعات مختلفة وخطوط سكك حديد وبنية تحتية ومشاريع هندسية، وكما هو معروف فإن التنافس الإيطالي الفرنسي ممتد ويشمل حتى ميدان كرة القدم، وفي النهاية فإن ما يراهن عليه الإيطاليون هو أن تحسم إدارة ترامب ترددها فيمن تعده مفتاح الحل في ليبيا، فترامب أوعز إلى رئيس الوزراء الإيطالي بأن القيادة لإيطاليا هناك بالفعل، يوليو الماضي، لكنه لم يتخذ موقفا واضحا حيال ما تقوم به فرنسا في ليبيا من دعم للمشير حفتر وفريقه، ما دعا وزيرة الدفاع الإيطالية إلى أن تطلب علنا دعم أمريكا لإيطاليا من أجل إحلال الاستقرار في ليبيا.
مصادر عليمة توضح أن الولايات المتحدة لديها رغبة قوية في أن تدعم تسريع الإنتاج النفطي في ليبيا ليصل إلى 3 ملايين برميل يوميا من 1.6 مليون برميل الآن، لتحقيق هدفين: أولهما خفض الأسعار كهدف طالما سعى إليه ترامب، والثاني: تعويض نقص الإنتاج الإيراني بعد تشديد أمريكا ومعها حلفاء أوروبيون الضغوط على نظام ولاية الفقيه كأوضح سياسة يتخذها الرئيس الأمريكي حيال بلد في العالم.
ولذلك يعد كثيرون أنه لم تكن مصادفة أن يتم اكتشاف مركبين تركيين ينقلان السلاح إلى جماعات الإرهاب في طرابلس وحولها في هذا التوقيت، ويذهب كثيرون إلى الاعتقاد بأن الجيش الليبي ورغم جاهزيته لدخول طرابلس لا يريد أن يقدم على تلك الخطوة إلا وهو على يقين بأن الظرف الدولي لن يمنع.
ما لا يدركه قادة إيطاليا الجدد أن ترامب لن يسمح أن تعود أمريكا إلى استخدام جماعات الإرهاب المتسترة بالدين في العمليات الاستراتيجية لبلاده، ويعد أن تلك أهم نقطة تميزه عن منافسته هيلاري كلينتون، وعن عهد أوباما عموما.
ومعروف أن ترامب قال مرارا، قبل فوزه بالرئاسة، إن العراق تحول إلى «هارفارد» للإرهاب، وإن ليبيا تناثرت، ولو كان القذافي وصدام موجودين –مع تسليمه بأنهما لا يطاقان– لكان الوضع أفضل.
صحيح أن ترامب غيّر خطابه نسبيا، لكن يجب على الطليان -وغيرهم- استيعاب هذا التوجه إذا كانوا يريدون حقا الدفاع عن مصالحهم النفطية وغير النفطية في ليبيا.