رغم الأجواء المتقلبة التي تحيط بالمشهد الليبي.
فإن ما تحقق خلال الأشهر القليلة الماضية حمل إشارات جدية لإمكانية طي صفحة الصراع الليبي- الليبي، والانتقال إلى حالة من الاستقرار السياسي والاقتصادي كمعيار أساسي للاستقرار الوطني والاجتماعي.
عيون جميع الأطراف الداخلية والإقليمية والدولية ترنو إلى المرحلة المقبلة باعتبارها تتويجاً لمسار سياسي وضع ركائز هامة لعملية الانتقال بالبلاد والعباد إلى مرافئ الأمن والأمان، وتحديداً إلى الاستحقاق الانتخابي نهاية العام الجاري، بعد مرحلة انتقالية استطاعت أطرافها رسم معالم المشهد على الرغم من العقبات والصعوبات الذاتية وتأثير التدخلات الخارجية فيها.
أكثر المنغصات التي تعترض سبيل مواصلة السير على هذا الطريق تكمن بلا أدنى شك في المجاميع "المليشياوية" التي لا تزال حاضرة في المشهد الليبي والتي تعتبر امتدادا لتيارات ليبية أفرزتها الاصطفافات الأيديولوجية، خاصة تنظيم الإخوان المسلمين وأذرعه متعددة التسميات، إذ راهنت بعض القوى في الداخل الليبي على توظيفها للاستمرار في القبض على السلطة، حتى وإن كانت ضمن بقعة جغرافية بعينها كما كان حاصلاً في طرابلس الغرب، يضاف إليها مجموعات من المرتزقة تتلطى خلفها تدخلات خارجية من بعض الدول.
يبدو أن هذه المجاميع ومن يقف وراءها لا تزال تراهن على إمكانية الاستفراد بالسلطة، وتعمل بوحي هذا الوهم من خلال تجاهل أو محاولة إقصاء أي طرف لا يدين بالولاء لها ولأجندتها. ما حققته العملية السياسية لليبيين يُعدّ مدماكاً هاماً يصلح البناء عليه ضمن إطار عام يضم الجميع، ويحترم مصالحهم ويعترف بأدوارهم كشركاء في الوطن، وهذا يتطلب رؤية وطنية جامعة وبرنامج عمل تشاركياً يؤسس للدخول في الانتخابات المقبلة انطلاقاً من هذه الرؤية.
هل يستطيع أحد إنكار دور الجيش الليبي في تعديل موازين القوى وتغييرها وإجهاض مشروع الإخوان المسلمين الساعي للسيطرة على البلاد؟ هل يجوز القفز فوق حقيقة وجوده وأهميته ودوره في إحداث توازن على الأرض وإسهامه في دفع المجتمع الدولي إلى إطلاق عملية سياسية لا تستثني أحداً من الليبيين؟
الأطراف الليبية الرسمية اليوم ممثلة بحكومة عبدالحميد الدبيبة والمجلس الرئاسي برئاسة محمد المنفي التي تحث خطاها في سباق مع الزمن ضمن فترة زمنية انتقالية تمهيداً للانتخابات المقبلة؛ لا بد لها من الانفتاح على جميع مكونات الشعب الليبي وتبني مشروع "الشراكة من أجل السلام" كمشروع وطني جامع مع القوى والتيارات الليبية العسكرية منها والمدنية في طول البلاد وعرضها، واستثمار المناخ العربي والدولي الملائم والداعم لتوجهاتها من ناحية، والمؤيد لمشاركة الأطراف جميعها في صياغة الدولة الليبية الجديدة من ناحية أخرى. من الطبيعي أن يسعى قادة المرحلة الانتقالية في ليبيا إلى إعادة ترتيب علاقات بلادهم مع المحيطين العربي والدولي، لكن الأولوية في المقام الأول هي لترتيب البيت الداخلي الذي يمنح خطاهم قوة ومنعة في مواجهة التدخلات الخارجية، ويمكّنهم من التحدث بصوت واحد لتحقيق هدف مشترك وهو تنظيف الأرض الليبية مما علق بها جراء أجندات ومشاريع أضرت بليبيا شعباً ووطنا.
ليس أمام الحكومة الانتقالية في ليبيا من خيار سوى العمل على مسارين؛ أولهما داخلي للوصول إلى مصالحة فعلية مع التكتلات الليبية الوطنية سواء في الجيش، بحيث يتم تحويله إلى جيش وطني جامع لكل الليبيين من كان منهم عاملاً في قطاعاته أساسا، أو من يرغب من التكتلات العسكرية الأخرى ذات الصبغة المليشياوية في الاندماج تحت رايته، أو ضمن السياقات الحزبية والسياسية بحيث تنتفي مظاهر التشرذم والولاءات الخارجية لصالح رؤية وطنية قوامها التعددية السياسية والحزبية تحت سقف دستور يضمن مصالح الجميع ويصون حقوقهم. أما على المسار الثاني فلا بد لهم من اقتناص مظلة المجتمع العربي والدولي ومزاجه الضاغط لبلورة صيغة راسخة ومتكافئة في علاقات بلادهم مع الخارج وصياغة تلك العلاقات بناء على متانة الجبهة الداخلية من جهة، وعلى حماية مصالحهم من جهة أخرى.
تبلورت خلال الفترة القصيرة الماضية قواسم مشتركة بين المكونات الليبية على مختلف مشاربها تحمل ملامح التقارب وإمكانية البناء عليها كقواسم تجمع أكثر مما تفرق، باستثناء بعض القوى التي تعتبر الشراكة الوطنية هزيمة لمشروعهم وفي طليعتهم تنظيم الإخوان المسلمين، الذي لا يفوت فرصة إلا ويسعى للطعن بما يتحقق من مصالحات وتفاهمات بين القوى الفاعلة سياسياً ومجتمعيا، وهدفهم لم يعد خافياً على أحد وهو الهيمنة على السلطة؛ أو في الحد الأدنى مصادرة القرار الوطني وتطويعه لما يخدم أجنداتهم، ويبدو أنهم لا يرغبون بالاعتراف، أو بالأحرى لا يريدون التسليم بأن الشراكة الوطنية تتطلب تنازلات من جميع الأطراف، وأنه حان الوقت لاستبعاد فكرة التفرد بالسلطة، أيا كان مصدرها وحاضنها.
أمسُ ليبيا لم يعد صالحاً إلا للبناء على ما تحقق خلاله من تحولات إيجابية باعتبارها ركائز لمعالجة الحاضر والانطلاق منه باتجاه صياغة مستقبل يليق بما تم إنجازه على قاعدة وطنية صلبة تحاكي متطلبات الليبيين وتلبي طموحاتهم، ولا بد للطبقة السياسية من أن تعي حجم التحديات الماثلة حتى الآن بكافة أشكالها ومنابعها، لتتمكن من وضع أسس معالجتها وتجاوزها وتهيئة المناخ الملائم وصولاً إلى الاستحقاق الانتخابي في ديسمبر/كانون الأول المقبل، بحيث يتسنى إحداثُ قطيعة جدية مع مرحلة الصراع بكل أشكاله ومحفزاته.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة