ثمة عنف لغوي يطرأ على لغة التخاطب السياسية في أوروبا ويجعلها بعيدة تماما عن طبائعها الحصيفة المألوفة.
الأزمة في أوكرانيا ربما كانت سببا.. ولكن حتى هذه الأزمة ما كان لها أن تُحدث منعطفًا في التخاطب بهذا المقدار العنيف، لا بين أطراف حكومة واحدة، ولا بين طرفين دوليين مختلفين.
الأسلوب المعتاد في التعبير عن وجود خلافات عميقة، على سبيل المثال، كان يتم حصره بتعابير من قبيل القول "إن المحادثات كانت صريحة وشاملة". والترجمة الفعلية لهذا التعبير هي أن خصومة قد نشبت حول جميع القضايا التي تم بحثها.
ما تفعله كلمة "الصراحة" هي أنها تقدم الإيحاء بأن كل طرف قال كل ما لديه في وجه الطرف الآخر. ولكن لا الكلمة ولا الإيحاء يسمحان بالقول إن حبال التواصل قد تقطّعت.
اللغة الدبلوماسية قائمة برمتها على هذا الأساس الإيحائي، الذي لا يقطع خطوط الرجعة، ولا استئناف الجهد لرأب الصدوع، على الرغم من أنها تظل قادرة على أن تقدم المؤشرات إلى اتجاه محدد.
إطلاق الأوصاف القاطعة، أو الخشنة، من المحرمات بين الدبلوماسيين.. وجرت العادة أن السياسيين أنفسهم لا يذهبون أبعد مما تسمح به الحصافة ضد أحدهم الآخر، لكي لا يقطعوا فرص اللقاء بوجه مبتسم لاحقا.
والسبب مفهوم. وهو أن ما يبدو صعبا قبوله اليوم، قد يُصبح ممكنا غدا. وأن ما ترفضه بشدة، قد تكتشف فيه فائدة في وقت آخر. فما يتغير من الأحوال والوقائع والتوازنات هو ما يدفع إلى تغيير "المواقف"، التي يجب ألا تكون، بحسب طبائع الحياة، إلا مواقف مرنة. وتحتاج السياسة على هذا الأساس إلى لغة مرنة توازيها أو تستعد لها وتتقبل احتمالاتها.
مخاوف المصرف المركزي البريطاني من زيادة التضخم مشروعة ومدروسة من جانب خبراء على مقدار عالٍ من الكفاءة والحيادية. وبالتالي لا يُرد عليها بأنها "محض هراء". ولكن هذا ما وصفها به جيرارد ليونز، مستشار رئيسة الوزراء ليز تراس، يوم 24 سبتمبر الماضي.
كل المؤسسات المالية الدولية الكبرى عبرت عن المخاوف نفسها، حتى أجبرت "تراس" على الاعتراف بأن خططها لخفض الضرائب كانت متسرعة.. ولكن ثبت أن "التسرع" اللغوي في توجيه الإهانة للمصرف المركزي كان تعبيرًا عن مستوى أدنى من المألوف.
"ليونز" قال، لكي يزيد الطين بِلّة: إن "خبراء بنك إنجلترا يبعثون برسالة غريبة للغاية، ولديهم أزمة مصداقية صنعوها بأنفسهم".
وواضح الآن أين تكمن أزمة المصداقية، بعد أن أطلق صندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي والمؤسسات التي تتعامل في أسواق السندات، صفارات الإنذار تجاه ما تعتزم حكومة "تراس" فعله.
وثبت أن اللغة الخشنة لا تحمل معها ما يشير إلى أنها، هي نفسها، ذات مصداقية.
رئيسة المفوضية الأوروبية، أورزولا فون دير لاين، كانت ضحية أخرى لهجوم عنيف مماثل عندما حذرت الأحزاب اليمينية الإيطالية، يوم 23 سبتمبر الماضي، "من انتهاك مبادئ الديمقراطية". وأشارت إلى أنه "إذا سارت الأمور في اتجاه صعب، فلدينا أدواتنا".
ماتيو سالفيني، رئيس حزب الرابطة، الشعبوي اليميني المتطرف، وصف هذه التحذيرات بأنها "تهديد سخيف".
ما لم يكن سخيفا، هو أن الحرب، التي يزمع التحالف اليميني الإيطالي شنها ضد قوارب المهاجرين أو حقوق الأقليات داخل إيطاليا، تُمثل بالفعل سببا حقيقيا للمخاوف.
وزير الزراعة الألماني، جيم أوزدمير، اتهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يوم 26 سبتمبر الماضي، بـ"الكذب" بشأن استخدام الحبوب الأوكرانية، لأنه قال إن جانبها الأعظم يذهب إلى الدول الأوروبية وليس إلى الدول الفقيرة.
والاتهام بالكذب، في الأعراف المألوفة، جريمة قد تقتضي الملاحقة بالمحاكم. ولكن أزودمير زاد عليها بوصف أبشع في محاولة للقول إنها لا تساوي شيئا.
وهذا أسلوب لم يحدث إن كان جائزا من قبل. ولا حتى بين المتحاربين.
المنحدر اللغوي كان واضحا. وهو أن الشعبوية السياسية، التي تسود الآن في أوروبا، تقلب معايير التخاطب وتحوّلها إلى هجمات تستعين بلغة غير لائقة، وغير مألوفة. ولو جئت بدبلوماسي من أوائل القرن الماضي ليسمعها، لشد شعر رأسه عجبا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة