ابن لَنْكك البصري شاعر عاش بين البصرة وبغداد، وتوفي 970م، عاصر المتنبي، وكان ينتقده دائما لأنه شاعر "متمرد على أوضاع عصره وأهل زمانه".
تعرفت على شعره من كتاب بعنوان "شعر ابن لَنْكك البصري"، تعودت على قراءته كلما ضاق الصدر بوقائع الدهور، وعجز العقل عن فهم ما يجري فيها من الأمور، وتحيرت في تفسير أحداث هي من البَدَهيات، ولا تحتاج إلى عالِم نحرير أو خبير خطير.
إذا نظرت إلى أحوال الطبقات السياسية في دول عربية عديدة منها ليبيا واليمن والعراق ولبنان ستجد أن ابن لَنْكك البصري كان هناك بالأمس، وأنه خبر المكان وعاش الزمان وتعمّق في فهم مكنونات عقل وقلب الإنسان.
عُدت إلى ابن لَنْكك البصري ووجدته هذه المرة يكتب عن حال الطبقة السياسية الفاشلة في تلك الدول، التي توشك أن تدمر ما بقي من الدولة، وأن تفكك المجتمع، لا لشيء إلا لمزيد من تكديس الثروات على حساب البسطاء والفقراء الذين وصلوا إلى ما بعد الجنون.
وجدت ابن لَنْكك البصري وكأنه يعيش في تلك الدول الآن، وعلى الرغم من أنه مات منذ أكثر من ألف سنة، فيصف اللحظة التاريخية التي تعيشها تلك البلاد فيقول:
"الدهرُ دهرٌ عجيبُ.... فيه الوليد يشيبُ/
العير (الحمير) فوق الثريا.... وفي الوهاد الأريبُ".
حقيقة لا ينكرها عاقل.. فالطبقة المسيطرة فوق الثريا، والعقلاء في القاع أو الوهاد، أو يموتون في صمت.
ويكمل ابن لنكك واصفا حال الطبقة السياسية، فيقول:
"وعصبة لما توسطتُهُمْ... ضاقت عليَّ الأرضُ كالخاتمِ/
كأنهم من بُعْدِ أفهامهم... لم يخرجوا بَعْدُ إلى العالمِ/
يضحك إبليسُ سرورًا بهم... لأنهم عارٌ على آدمِ"...
وينصح ابنُ لَنْكك العقلاءَ فيقول:
"زمانٌ قد تفرَّغ للفُضولِ... يسوِّدُ كلَّ ذي حَمَقٍ جهولِ/
فإنْ أحببتمُ فيه ارتياحا... فكونوا جاهلين بلا عقولِ".
ويكمل ابن لَنْكك البصري وصف حال العديد من المجتمعات العربية في دول ما بعد الربيع العربي المشؤوم بقوله:
"يعيبُ الناسُ كلُّهم الزمانا... وما لزماننا عيبٌ سوانا/
نعيبُ زمانَنَا والعيبُ فينا... ولو نطَقَ الزمانُ إذنْ هجانا/
ذئاب كُلُنا في زي ناس... فسبحان الذي فيه برانا/
يَعَافُ الذئبُ يأكلُ لحمَ ذئبٍ... ويأكلُ بعضُنا بعضًا عيانا".
ثم ينتقل ابن لَنْكك البصري إلى توصيف حال التدين الشكلي، الفارغ من المضمون، الذي صار دينا ضد الدين، في ظاهره دين، وفي باطنه عكس كل ما يقول الدين، إمعانا في التمسك بالمظاهر، حيث تحول الدين إلى مجرد وسيلة لاستغلال العوام وخداعهم من أجل تبرير مظالم طبقية وطائفية وحزبية ضيقة، هي في حقيقتها مصالح أنانية غرائزية بعيدة كل البعد عن جوهر الدين، ولكن أولئك الذين احترفوا استخدام الدين للوصول إلى مصالحهم، ومصالح طوائفهم وأحزابهم، يمعنون في التمسك بالشكليات والمظاهر، ويبرعون فيها، وكأنهم على مسرح يمثلون. ي
قول ابن لَنْكك البصري واصفا هذه الطبقة من رجال الدين الذين احترفوا السياسة:
"لا تَخْدَعَنْكَ اللَّحى ولا الصورُ... تسعة أعشارِ مَنْ ترى بَقَرُ/
تراهمُ كالسحابِ مُنتَشِرًا... وليس فيه لِطالبٍ مَطَرُ".
ما يقوله "ابن لنكك" البصري منذ ألف عام يثبت أن مجتمعاتنا تدور في حلقة مفرغة، لم تتقدم في طريق الحضارة خطوة على المستوى العقلي والإنساني، وإن امتلكت كل وسائل الحضارة، التي صنعها غيرهم، نقرأ ما كُتب من ألف عام فنجده يصور حالنا بدقة، غاية في الدقة. وهذه الحقيقة تدفعنا لأن نعمل على القيام بعملية إصلاح ثقافي شامل، يبدأ بإصلاح الثقافة الدينية، وليس فقط الخطاب الديني، فالثقافة التي تنسب نفسها للإسلام هي في حقيقتها ركام من طبقات من العادات والممارسات التي ترسخت في أكثر العصور تخلفًا وانحطاطا في تاريخ المسلمين، ولأنها جاءت من التاريخ فقد أضفيت عليها قداسة ليست فيها، ولا منها، لذلك لا بد من نفض هذه الثقافة، وتغييرها بعملية منهجية تقوم بها الدول وتشمل مناهج التربية والتعليم، والخطاب الديني، والفنون والإعلام.. حينها فقط من الممكن أن يعود ابن لَنْكك البصري إلى قبره.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة