تراث إنساني متعدد الثقافات، هو ما يجمعه تحت قبته متحف اللوفر أبوظبي.
«أدياننا وثقافاتنا وحضاراتنا مرتبطة، والذين يريدون إيهامنا أينما كانوا في العالم أن الإسلام يُبنى على الانتقاص من الأديان الربانية الأخرى، كلهم يكذبون».
هكذا تحدث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خارجاً عن النص المكتوب، أثناء إلقاء كلمته في افتتاح متحف «اللوفر أبوظبي» الأسبوع الماضي، موجهاً رسالة إلى الذين يحملون في نفوسهم بذور الشر، ويريدون أن ينشروها بين البشر، ليشعلوا الصراعات والحروب، ناصبين من أنفسهم أوصياء على الشعوب.
لهذا، كان افتتاح معرض «اللوفر أبوظبي» معبّراً، ليس من ناحية الكلمات التي أُلقِيت فيه فقط، وإنما من ناحية الرسائل التي حملها إلى العالم أجمع، وهي رسائل متعددة الوجوه، مختلفة الصيغ.
فقد أكد المتحف أن الفن والجمال يمكن أن يشكلا روابط قوية بين الشعوب، تتجاوز أهميتها المصالح المادية، لأن الفن والجمال يسموان بنفوس البشر، ويرفعانها فوق مستوى الماديات التي تحضر عندما تتقدم المصلحة، وتغيب عندما تتأخر.
الرسائل التي يبعثها متحف اللوفر أبوظبي لا يفهمها إلا المتحضرون، الذين سلمت نظرتهم من الجهل والغلو والتطرف، أما أولئك الذين أعمى بصيرتهم الجهل والغلو والتطرف، فهم في طغيانهم يعمهون، لأنهم كلهم يكذبون
لقد جاء افتتاح المتحف في توقيت تعصف فيه بالعالم رياح العنف والتطرف، وتعلو فيه أصوات الموتورين في أماكن كثيرة من أنحاء الكرة الأرضية، فرسم بقعة ضوء قوية وساطعة وسط أمواج الظلام المتلاطمة.
لذلك، كان تعبير صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم دقيقاً، حينما وصف المتحف بأنه «قبة النور في منطقة يحاول أصحاب الفكر الظلامي أن يرجّعوا حضارتها إلى عصور الجهل والتخلف».
أولئك هم الموتورون الذين يحاولون إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، فيغلقون العقول بمفاتيح الجهل والتخلف، ويعيدون المنخدعين بأفكارهم إلى عصور تخلصت منها البشرية منذ قرون، عندما اكتشفت أن هذه الأفكار لا تقود إلا إلى الدمار، وأن من صالح البشر جميعاً أن يعيشوا في وئام، كي يشعروا بالأمان، ويطمئنوا على حاضرهم ومستقبل أبنائهم.
وجاء افتتاح المتحف أيضاً، ليقول إن الثقافة لم تكن يوماً مصدراً للصدام والصراع بين البشر، وإنما هي جسر للتواصل والتعارف.
وهذا ما أكده صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، عندما قال إن «رسالتنا التي نوجهها اليوم للعالم كله من خلال افتتاح هذا الصرح الثقافي والعالمي في دولة الإمارات العربية المتحدة، هي أن الثقافة كانت وما زالت جسراً للتواصل والتعارف والحوار بين الشعوب والحضارات، وليست مصدراً للصدام أو الصراع».
وهي فكرة طالما حاولت دولة الإمارات العربية المتحدة أن ترسّخها في أذهان الجميع، لكن آذان الذين أعماهم الجهل والغلو والتطرف، لا تستمع إلى مثل هذه النصائح، وعقولهم لا تتدبرها، لأن كتل الظلام تحجب عنهم الرؤية، مهما حاول العقلاء أن يزيحوا هذه الكتل عنها.
تراث إنساني متعدد الثقافات، هو ما يجمعه تحت قبته متحف اللوفر أبوظبي، فتَحْتَ هذه القبة الرائعة ذات التصميم الفريد، تجتمع ثقافات العالم وحضاراته المختلفة، من شرق الكرة الأرضية إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، في تمازج عجيب، يجمع بين عصور مختلفة، تبدأ قبل الميلاد بآلاف السنين، وتصل إلى عصرنا الحاضر، لتمد جسراً، ليس بين الماضي والحاضر فقط، وإنما بين الحضارات والثقافات المختلفة، التي دارت صراعات ونشبت حروب بين شعوبها، لتلتقي أخيراً تحت سقف واحد في «عاصمة الثقافة والفن والمعمار والإبداع الإنساني» أبوظبي، كما وصفها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، في كلمة سموه المعبرة في حفل الافتتاح.
إلى أي مدى يمكن أن يشكّل متحف اللوفر أبوظبي ركيزة في ترسيخ ثقافة التسامح والتلاقح الفكري والإنساني؟، هذا واحد من الأسئلة التي يطرحها بناء المتحف في جزيرة السعديات، التي توفر له موقعاً ساحراً، يضفي على روعة تصميمه جمالاً أخاذاً، لا يوفره له موقع آخر، فهذه الجزيرة التي تجمع ما بين جمال الطبيعة الخلابة والتجارب الثقافية الغنية، والمعالم المعمارية الاستثنائية، والمرافق السياحية الحديثة، تم التخطيط لها كي تكون منطقة ثقافية ذات صبغة عالمية، ولهذا، وقع الاختيار عليها كي تكون موقعاً لمتحف اللوفر أبوظبي، بتصميمه الفريد، الذي وضع فيه المهندس المعماري الفرنسي العالمي «جان نوفيل» خبرته الممتدة، ليخرج لنا بتحفة فنية، هي مساحات من الظلال خلال النهار، وواحة نور تحت قبة تزيّنها النجوم في الليل، حيث تغطي القبة ثلثي المتحف، وتبدو عشوائية، لكنها مصممة من فتحات هندسية مستوحاة من سعف النخيل المتداخلة، التي كانت تستخدم قديماً في أسقف البيوت الإماراتية التقليدية، حيث تعمل هذه الفتحات على تسهيل عملية التحكم بالإضاءة ودرجة الحرارة في الداخل، بينما تأخذ المساحات الداخلية إضاءتها من شعاع النور، الذي يتسلل من بين فتحات القبة.
ويبقى أن أهم رسالة يبعثها المتحف، هي أنه يجمع بين اسم «اللوفر» ذي المكانة الفنية والثقافية العالمية الفريدة، والذي لم يرتبط قبل هذا التاريخ بمدينة أخرى سوى عاصمة النور باريس، وبين اسم «أبوظبي»، التي تقدم نفسها للعالم ملتقىً للثقافات والحضارات والسلم والجمال والاعتدال، ليس من خلال هذا الحدث الثقافي التاريخي فقط، وإنما من خلال الإسهامات الكثيرة والمتنوعة، التي تعزز بها الأمن والمحبة والسلام في العالم، وتدعو إلى حوار حضاري مستنير، وتنبذ العنف والتطرف والكراهية والتمييز بين البشر على أساس العرق أو اللون أو الدين أو المذهب.
هذه الرسائل التي يبعثها متحف اللوفر أبوظبي لا يفهمها إلا المتحضرون، الذين سلمت نظرتهم من الجهل والغلو والتطرف، أما أولئك الذين أعمى بصيرتهم الجهل والغلو والتطرف، فهم في طغيانهم يعمهون، لأنهم كلهم يكذبون.
نقلا عن : " البيان " الإماراتية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة