أزمة "منج وانزو".. مع تشابك المصالح لا يمكن التصويب على "العمود الفقري"
عن هواوي وأمريكا.. كيف تصوب إلى موطن الوجع أو إلى العمود الفقري للخصم وأنت تراه يحمى ظهره بأبنائك؟
هناك ما يدعو إلى اعتبار عملية إلقاء القبض في كندا على "منج وانزو"، المديرة المالية لشركة هواوي، وابنة مؤسس الشركة الصينية الشهيرة، بطلب أمريكي، والإفراج المشروط عنها بكفالة، نقلة نوعية في الحرب الدائرة بين الولايات المتحدة والصين.
وقد اعتبرها "ستيجلتز" كذلك بالفعل، بل ذهب إلى حد القول إن ذلك العمل المتهور -برأيه- سيجلب الخطر إلى حياة جميع رجال الأعمال الأمريكيين حول العالم.
ولفت إلى أن أمريكا اتهمت شركات أمريكية وعالمية كثيرة -لم يذكرها- بانتهاك العقوبات ضد إيران وغيرها، ومع ذلك كان يتم توقيع العقوبات على الكيان الاعتباري، وليس على أشخاص، ما يدل على أن العمل الذي تم ضد "منج" اعتباطي بالفعل.
ويبدو أن الصينيين كانوا ينصتون إليه، أو لا ينتظرونه، فسرعان ما ردوا بتوقيف اثنين من رجال الأعمال الكنديين في بلادهم، غير أن أحدا في النهاية لم يتفاجأ بذلك، لأن المواجهة الشاملة مع الصين هي استراتيجية أمريكية طويلة المدى، ويتوافق عليها الحزبان، رغم المعارك الطاحنة بينهما والاستهداف المستمر لترامب من الديمقراطيين في كل خطوة له.
لم يتفاجأ أحد أيضا، لأن الجميع توقع أن تكون التكنولوجيا بالذات هي أصعب الحروب بين البلدين وأشدها ضراوة، ذلك لأن التقدم الأمريكي فى هذا المجال، هو أحد أهم ضمانات استمرار تربع الولايات المتحدة الأمريكية على عرش الاقتصاد العالمي.
ولا يتصور أحد وجود استراتيجية أمريكية لكبح تطور الصين دون مكون خاص بتحجيم تطورها التكنولوجي.
ومع ذلك كان هناك ما صدم الجميع، وهو أن شركات التكنولوجيا الكبيرة الأمريكية لها تعاون قوي للغاية مع الشركات الصينية، بما فى ذلك "أبل وإنتل وكوالكم"، أهم مصنعي الرقائق.
ولم يبد في أي وقت أن تلك الشركات ضغطت من أجل اتخاذ خطوة أمنية، كالتي قامت بها الولايات المتحدة ضد مسؤولة "هواوي"؛ بل إن جوجل، عملاق التكنولوجيا الأمريكي ذاته يعمل حاليا، كما أشير، على ابتكار خدمة "واتس اب" خاصة تصلح للصين، أي تقبل نوعا من الرقابة عليها لتنافس بذلك موقع "وي شات" الصيني، الذى يعمل كبديل لـ "واتس اب" داخل حدود الصين، ولديه قرابة 700 مليون مشترك حتى الآن.
الغريب أيضا أن "سامسونج"، تعتبر أكبر منافس لـ"أبل"، وكما تقول مصادر أمريكية، فقد انخرطت كل من "أبل" و"سامسونج" ما يقرب من عقد من الزمان في نزاع مرير حول انتهاك براءات اختراع، نابع من ادعاء "أبل" بأن "سامسونج" قامت بنسخ جوانب من "iPhone" في هواتفها.
من ناحية أخرى، تعد "سامسونج" أيضا من أفضل موردي مدخلات أجهزة "iPhone" وحليفتها في معركة براءات اختراع مثيرة أخرى، ضد شركة "كوالكم انك"، إحدى أكبر شركات أشباه الموصلات فى العالم.
ومع ذلك -وربما بسبب تداخل المصالح المعقد- لم يتحدث أحد عن إيقاف هذه الشخصية أو تلك من "سامسونج" يوما.
العجيب أيضا، أن ترامب تنصل تقريبا مما حدث، أو ترك مسافة بينه وبين واقعة القبض على "منج"، في حواره مع "رويترز" منذ أيام، فمن الفاعل إذا؟
تشير دلائل متنوعة إلى أن مطبخ إدارة المواجهات مع الصين، الذي يضم عناصر أمنية وسياسية واستخباراتية وتكنولوجية، هو المسؤول الأول عن هذا العمل، الذي لا يعرف فاعلوه إلى أين سينتهى حتى الآن.
ويبدو أن المطبخ الذي بدأ العمل حتى من قبل مجيء ترامب، يعد من بين واجباته القيام بشكل دوري بتعكير صفو التقدم الصيني بأي وسيلة، سواء جغرافيا -أي في دول مثل أمريكا اللاتينية أو أفريقيا– أو صناعيا، أو تجاريًا... إلى آخره.
وقد تسارع إيقاع العمل ضد الصين بالفعل، مع مجيء ترامب، ومعه متشدد مثل جون بولتون.
ومن هنا جاء العمل المتسرع الخاص بـ"منج"، لكن الواضح أنه قد تكون هناك أعمال أخرى مقبلة أكثر إحكاما أو أقل حمقا، لكن تسير على نفس النهج، ألا وهو حرمان الصين من أن تحوز السبق في تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء والجيل الخامس و"البلوك تشين"، وهي المجالات التي أصبحت "هواوى" من رموز التقدم العالمي فيها، جنبا إلى جنب مع شركات أمريكية وغربية متقدمة.
ولكي ندرك أبعاد ما وصلت إليه «هواوي»، يجب أن ننظر إلى ما قاله رئيسها أمام المنتدى العالمي التاسع للنطاق العريض المتنقل، الذي انطلق في لندن يوم 20 نوفمبر/ تشرين ثاني، 2018.
هناك تجمع أكثر من 2200 من القادة والمحللين من مشغلي الاتصالات المتنقلة، والصناعات المعتمدة عليها، ومنظمات المعايير في جميع أنحاء العالم.
وفي هذا الحدث، أشار رئيس مجلس إدارة هواوي، "كين هو"، إلى أن تكنولوجيا الجيل الخامس ستبدأ ثورة تكنولوجية غير مسبوقة، وستجلب قوة جديدة إلى جميع تقنيات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وستؤدي إلى حدوث تغييرات جذرية في مجال الأعمال.
وكشف أنهم في أكتوبر/ تشرين أول 2018، أعلنوا عن حل الذكاء الاصطناعي الكامل المرن لجميع السيناريوهات، وضاعفوا قوة الحوسبة.
وأضاف: "نحن نريد أن نجعل طاقة الحوسبة بأسعار معقولة.. في الوقت الحالي، ما تزال قوة الحوسبة مكلفة للغاية.. إنه عنق زجاجة ضخم لتطبيقات الذكاء الاصطناعي، هدفنا هو جلب الذكاء الاصطناعي إلى كل مكان.. ونحن نجعل أجهزة الاستشعار أكثر حساسية، ومع المزيد من المستشعرات والبيانات، يمكننا فهم العالم (والأفراد فردا فردا وكذا الأشياء) من حولنا بشكل أفضل".
وكشف عن أنه "توجد اليوم 154 شركة نقل معلومات واتصالات في 66 دولة، تقوم باختبار تكنولوجيا G5 بنشاط، بما في ذلك الاختبارات الميدانية، وسنشهد انتشار G5 في 110 أسواق بحلول 2025، وفي هواوي وحدها، قمنا بالفعل بشحن أكثر من 10000 محطة قاعدية G5 إلى أوروبا والشرق الأوسط وكوريا".
معروف أنه مع G5، سيتجاوز الاتصال الخطوط والكابلات، وسيصبح الاتصال منصة، ستكون هناك سرعات نقل في الوقت الحقيقي بين السحابة والجهاز، دون أي تأخير على الإطلاق.
إن ما يخيف الجانب الأمريكي كذلك، أنه لدى "هواوي" برنامج للابتكار البحثي يوفر فرصا للتمويل إلى الجامعات ومعاهد الأبحاث الرائدة فى العالم، التي تجري أبحاثا مبتكرة في مجال تكنولوجيا الاتصالات وعلوم الكمبيوتر والهندسة والمجالات ذات الصلة.
وفي وقت مبكر من 2016، انضمت "هواوي" إلى "هايبر ليدجر"، وهو المشروع الأكثر تأثيرا في مجال "البلوك تشين"، الذي استضافته مؤسسة "لينوكس".
وتقول توقعات "هواوي" إنه بحلول 2025، سيكون هناك 40 مليار جهاز ذكي عالميا، وسيتبنى ما مجموعه 86% من الشركات العالمية الذكاء الاصطناعي، وسترتفع معدلات استخدام البيانات إلى 80%؛ وستصبح الاستخبارات في كل مكان مثل الهواء، مما يخلق فرصا هائلة، وفي 2025 سنرى 2018 كطفولة العالم الذكي.
رغم تصاعد اللغة الخشنة بين الصين وأمريكا، ما يزال كثير من المحللين يعتقدون أن تشابك المصالح بين الولايات المتحدة والصين يظل أعقد من أن يتم تخطيه أو تفكيكه أو إلغاء أثره، ولو بحرب عسكرية أو بحروب تجارية.
ويدللون على ذلك بأزمة "هواوي" ذاتها، إذ يرون أن مجتمع وادي السليكون هناك غير مرتاح لخطوة الإدارة باعتقال سيدة الأعمال الصينية، كما أنه متداخل بشدة مع العقول الصينية والسوق الصينية.
ويرون أنه يحقق مكاسب كبيرة من وراء ذلك، بمثل ما تستفيد الصين؛ ويؤمن كثيرون بأن تطور التكنولوجيا كفيل بتشبيك الجميع أكثر وليس جعلهم يلجأون إلى آليات مثل القبض والاعتقال.
جدير بالذكر أن صادرات أمريكا من الخدمات في 2017 بلغت ما قيمته 798 مليار دولار، في حين بلغت قيمة الواردات 542 مليار دولار؛ وشهدت صادرات الخدمات نموا سريعا، حيث ارتفعت بنسبة 275% منذ عام 2000، متجاوزة الزيادة فى صادرات السلع بنسبة 192٪.
ورغم سطوع هذه الحقيقة فإن إدارة ترامب، تسير كما يذكر مقال لـ"آنى او كروجمان" على الطريق الخاسر، حيث يتحسر ترامب على "الميزان التجاري"، الذي يقيس التجارة فى السلع، دون الاعتراف بالخدمات، ويشجب إغلاق المصانع حتى عندما يكون الإنتاج راكدا أو متراجعا، وينسى أن "أمازون وجوجل وإنتل وأبل" هي أدواته الأهم، وأن الدفاع عن مصالحها لا يكون بتوقيف الناس في مطارات الدول الأخرى.
سيعاني القائمون بابتكار أدوات -يوميا أو دوريا- للتنكيد على الصينيين، كثيرا، في التنشين.. إذ كيف تصوب إلى موطن الوجع أو إلى العمود الفقري للخصم وأنت تراه يحمى ظهره بأبنائك؟