أنتمي إلى جيل لم يجرؤ على نشر رأي حتى أنهى مرحلة الجامعة، وإنْ تجرَّأ وكتب يتحرَّى كل مصدر لمعلومته.
يعرض الآراء المختلفة، ويخجل من أن يحشر نفسه بين مَن يعتبرهم أساتذته من المتخصصين في الشأن السياسي أو الاستراتيجي.
كان ذلك الجيل يتمثل بيت الشعر، الذي رد به الفقيه "ابن دقيق العيد"، المتوفَّى عام 1305 م، على من أقحم نفسه على الفقه وهو ليس له في العلم قبل ولا بعد، فقال له بيت الشعر الشهير: "يقولون هذا عندنا غير جائزٍ.. ومَنْ أنتمُ حتى يكونَ لكم عِنْدُ؟"، فكان من الأدب أن يقول الإنسان لنفسه "مَن أنتَ ليكون لك رأي في تلك القضايا الكبرى، التي تحتاج إلى إلمام عميق بجوانب وأبعاد، تستلزم الخبرة والتخصص وتوفر المعلومات اليقينية من مصادرها؟".
أما مَن يطالع ما يتم نشره اليوم على مواقع التواصل الاجتماعي في بلادنا، سواء فيسبوك أو تويتر، بنفس منهجية الجيل، الذي أنهى مراحل تعليمه قبل اختراع هذه الوسائل، فقد يُصاب بالجنون، حيث يجد من لا يجيد كتابة جملة صحيحة، ولا يعرف أكثر من لغة السباب والبذاءات يتحول إلى خبير في السياسة، وجنرال في الجيش، ويعطي أوامر للرؤساء والوزراء وقادة الجيوش بأنه يجب أن يفعلوا كذا وكذا، وإن لم يفعلوا ينهال عليهم بقاموس ساقط من الألفاظ.
هذه الظاهرة الخطيرة تحولت بفعل انتشارها وتوسعها إلى حالة طبيعية، تحميها شعارات حرية الرأي والتعبير وسيوف الديمقراطية، التي تضعها المؤسسات الدولية، ودول ذات مصالح، على رقاب الدول الأقل في ميزان القوة الدولية، بحيث لا يستطيع أحد أن يوقفها، أو ينظمها، أو يقلل من آثارها، فشخص واحد يدير "فيسبوك" أو "تويتر" يملك من القوة والنفوذ أكثر من عشرات الدول ومليارات البشر، حتى وإن تسببت تلك الوسائل في تفكيك مجتمعات وتدمير دول.
المطلوب هنا هو التنظيم، الذي يتم تطبيقه في اللغات الأوربية، لأن خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي تعمل بهذه اللغات، أما ما يُنشر باللغة العربية فهو حالة كاملة من الفوضى تديرها كتائب ولجان إلكترونية تابعة لدول ذات مصالح في خلق الفوضى، أو لمن يوظف الدين لتحقيق أهداف سياسية.
يحدثنا العهد القديم في "سفر التكوين" في الإصحاح الحادي عشر 1-9 عن حالة تشبه إلى حد كبير الوضع الذي تعيشه مجتمعاتنا اليوم، تلك الحالة التي ظهرت بعد طوفان نوح عليه السلام، حيث أمر الله سبحانه البشر أن ينتشروا في الأرض، ولكنهم تجمعوا في أرض العراق، وقرروا بناء برج ضخم من الطوب الأحمر والحجر لكي يصلوا إلى السماء، يقول سفر التكوين: "وكانت الأرض كلها لسانا واحدا ولغة واحدة، وحدث في ارتحالهم شرقا أنهم وجدوا بقعة في أرض شنعار -العراق- وسكنوا هناك، وقال بعضهم لبعض: هلم نبني لأنفسنا مدينة وبرجا رأسه بالسماء، ونصنع لأنفسنا اسما لئلا نتبدد على وجه كل الأرض، وقال الرب: هو ذا شعب واحد، ولسان واحد لجميعهم، وهذا ابتداؤهم بالعمل، والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه، هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض، فبددهم الرب من هناك على وجه كل الأرض، فكفوا عن بنيان المدينة، لذلك دُعي اسمها بابل لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض، ومن هناك بددهم الرب على وجه كل الأرض".
من برج بابل تفرّق البشر، وانقطعت الصلة بينهم بعد ما فقدوا القدرة على أن يفهم بعضهم بعضاً، وصاروا يتكلمون بلغات عديدة بعد أن كانوا يتكلمون لغة واحدة.
كان هذا مصير البشر، الذين تكبروا وعصوا أمر ربهم، إذ أصيبوا في كلامهم ولسانهم ووسائل التواصل بينهم، وسُميت حينها "بلبلة"، وصارت هذه الكلمة تعني التشتت والتشرذم والخلاف وانقطاع التواصل بين البشر، رغم أنهم يظنون أنهم يتكلمون لغة واحدة.
هذه البلبلة هي الحالة، التي خلقتها وسائل التواصل الاجتماعي، والإعلام الجديد في عصرنا هذا، بحيث صار المجتمع مشتتاً متشرذماً مفككاً غير قادر على أن يتوحّد خلف دولته وقيادته لمواجهة قضايا كبرى تهدد أمنه، أو تهدد مستقبله ومصيره.
وسائل "البلبلة الاجتماعية" هذه هي الخطر الأكبر، الذي يواجه مجتمعاتنا، ولقد أحسنت الدول، التي ضبطت محتوى هذه الوسائل، أو خلقت بدائل لها، وقد يحتج البعض هنا بحرية التعبير، ولكن الأمر يتعلق بالوسائل وليس بالقيم، فيمكن تحقيق حرية التعبير بصورة لا تهدد المجتمع عبر وسائل أكثر انضباطاً، وذلك بإجبار هذه المنصات على أن تضبط المحتوى العربي بنفس منهجية ضبط محتواها الإنجليزي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة