نهار الخميس الأول من ديسمبر الجاري بدأت أعمال النسخة الثامنة من مؤتمر روما للحوارات بين دول المتوسط،
وانطلقت رسميا صباح الجمعة 2 ديسمبر بكلمة من الرئيس الإيطالي سيرجيو ماتاريلا.
كان الهدف الرئيس من هذا المنتدى، ومنذ انطلاقه عام 2015، برعاية وزارة الخارجية الإيطالية وبالتعاون مع المعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية، هو وضع أجندة عمل، إيجابية وخلاقة، قادرة على التعامل مع التحديات التي تواجه دول المتوسط على المستويين الإقليمي والدولي.
تكتسب منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط، أهمية كبرى لسببين، الأول مرده التاريخ الذي جمع شعوب تلك المنطقة، والتي أطلق عليها العرب في القرون الوسطى منطقة البحر الكبير، والثاني من جراء الموقع الجغرافي، حيث تتوسط القارات الكبرى الثلاث إفريقيا وآسيا وأوروبا، وقد مثلت حلقة الوصل، بل نقطة المرور التي لابد منها على مستوى خارطة الكرة الأرضية.
والشاهد أنه رغم أن تاريخ المنطقة لم يكن سخاء رخاء، أو صفاء زلالا، فقد جرت في المياه حروب وصراعات، بعضها عسكرية، وغيرها عقائدية، إلا أن العقود الأخيرة كشفت للجانبين، أنه لا محال عن التلاقي، فقد كتبت الطبيعة جوارا لا فرار منه، وعليه ظهرت دعوات عديدة لنشوء وارتقاء تعاون متوسطي، وشمال إفريقي، وشرق أوسطي، لا يوفر العرب، ولا الأفارقة أو الأوربيين.
بدأت مسيرة التعاون المتوسطي عام 1995، من خلال عملية برشلونة، بمشاركة دول الاتحاد الأوربي، و15 من جيرانه الجنوبيين، وكان الغرض هو "خلق منطقة سلام واستقرار وأمن في البحر المتوسط ".
مضت المسيرة لاحقا ليتبلور،" الاتحاد من أجل المتوسط "، كمنظمة حكومية دولية، تضم 42 بلدا من أوربا وحوض البحر المتوسط، بهدف تعزيز الشراكة الأورو متوسطية.
تبدو قضية الإيمان بالانتماء المتوسطي، مسألة ملحة على مدى القرون، منذ زمن الإمبراطورية الرومانية، وحتى حاضرات أيامنا، ولعل هذا الإرث هو ما جعل الإيطاليين تحديدا، ودون غيرهم من شعوب القارة الأوربية، على قناعة كبرى بالمصير المتوسطي الواحد إن جاز التعبير.
لا تبدو رؤية أهل حوض المتوسط، فقط شراكة أحلام أو طموحات، لا سيما في هذا التوقيت القلق والمضطرب حول العالم، حيث حالة من اللايقين تخيم على سماوات البسيطة، بل هناك تحديات تجمع الجانبين.
تبدو قضية التغيرات المناخية، واحدة من أهم المخاوف التي تنتاب الجميع دفعة واحدة، حيث البشر أمام هجمة إيكولوجية، لن يقدر لأحد منها الفرار.
أما عن القضية التالية فتتمثل في أمن الطاقة، وأوروبا اليوم تدخل مرحلة حرجة من الشتاء القارس، وتجد نفسها بين المطرقة الروسية والسندان الأمريكي، ما يجعل العرب والمتوسطيين الجار الأقرب والصديق الأكبر.
تطرح الجزئية المتقدمة آمالا وأحلاما، في طريق تعزيز التعاون الاقتصادي والسعي في الدروب اليومية لتحقيق الرخاء المتوسطي، من خلال خطط استثمارية واعدة، تتبادل فيها الشعوب المصالح، وتتضافر الجهود للتغلب على المعوقات.
من هنا تطفو على السطح كذلك قضية تحقيق التوازنات الإقليمية في ظل أزمات راهنة، وانقسامات حدية دولية – قطبية، بين الذين معنا والذين علينا، كما تفكر الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، فيما بكين تترقب، وكأن الإنسانية تعود مجددا، إلى دائرة تشظي زمن الحرب الباردة، فيما يقول الراوي أن الخليقة على شفا حفرة من حرب كونية ثالثة.
على أن الجزئية التي لفت إليها الرئيس الإيطالي ماتاريلا الانتباه في كلمته، تمحورت حول قضية الهجرة، والتي أعتبرها قضية عالمية، داعيا إلى الالتزام المشترك من جانب دول الاتحاد الأوربي والدول الإفريقية، لإيجاد حل عادل لها.
ماتاريلا تحدث بلغة راقية، ولم يخض غمار التقسيم المانوي، بحسب جوزيف بوريل، أي حديث " الحديقة الأوربية، والغابة الشرق أوسطية أو الإفريقية "، وهو ما تناولناه في قراءة سابقة.
غير أنه وللموضوعية نشير إلى أن مستقبل شعوب المتوسط، باتت مرهونة بتلك الأزمة، لا سيما أن هناك من يرى أن أوربا قد تكون اليوم عرضة للانهيار من جراء هجرات الشرق أوسطيين والأفارقة، كما انهارت الإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس الميلادي، من جراء هجرات القبائل الجرمانية، هربا من غزو قبائل الهون الآسيوية ما بين القرنين الخامس والسادس الميلادي.
أحسنت الخارجية الإيطالية حين قدمت للاتحاد الأوربي مقترحا بجمع 100 مليار دولار، تمنح للاتحاد الإفريقي، مع خطة إستراتيجية للنمو، بحيث تضحى بلدان القارة السمراء، قادرة على إيقاف الهجرات غير الشرعية.
هذه الخطة تبدو في عيون البعض، جزء من رد ثروات القارة الإفريقية التي تم نهب ثرواتها ولا يزال على يد المستعمر الأوربي، والعهدة على رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني، في إشارتها لدور فرنسا هناك.
يكتب البابا فرنسيس في كلمته للمنتدى يقول، إن لفظة "حدود" باللغة اللاتينية"، يمكنها أن تشير كذلك إلى هدف مشترك، وهو ما كانت على وعي به الحضارات التي سبقتنا، والتي كان المتوسط مهدها.
حوارات المتوسط دعوة للنماء والحياة لأصحاب النوايا والطوايا الصالحة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة