إنّ طريق الاقتتال سهل لِمَن عَدِمَ وسائل حل المشاكل بعيداً عن إزهاق أرواح البشر، فالحرب "هروب الجبان عن مواجهة مصاعب السلام".
بعد معركة طاحنة في سهلٍ متّسع أمام قلعة الأرك في شعبان 591هــ بين قرابة 200 ألف من قوات الموحدين ومعهم أهل الأندلس ومماليك مصر بقيادة أبو يوسف يعقوب المنصور و300 ألفا من قشتالة وفرسان فرنسا وفرسان الهيكل بقيادة ألفونسو الثامن، انتهت المعركة بخسائر هائلة للجيش القشتالي وأسر قرابة 30 ألف مقاتل بعد فرار ألفونسو لعاصمته طليطلة !
كان المتعارف عليه أن يتم طلب فدية باهظة للجنود الذين يتم أسرهم لإضعاف العدو مالياً، أو استرقاقهم لإضعاف الخصم بشرياً، وهكذا يبقى التجاذب بين الطرفين المتصارعين دائراً وتبقى وتيرة الانتقام متسارعة لا تتوقف، ولا ترث الأجيال المتعاقبة إلا أحمالاً من "الثارات" التي تحرق اليابس ولا تترك الأخضر لكي ينمو أصلاً، عندما اتجهت الأعين لأبي يوسف المنصور لمعرفة ما سيتخذه من قرار تجاه هذا العدد الهائل من الأسرى، فاجأ الجميع وهو يأمر بإطلاق سراحهم وتركهم يعودون لأهلهم دون فداء أو إيذاء!
لن تروق فكرة طيّ أوراق الماضي وفتح صفحات جديدة من التعايش والتناغم مع الآخرين للكثير من المنتفعين من الوضع المغلوط، وأولئك الذين يتباكون على المشاكل لكنهم لا يقدّمون حلولاً، وربما يستميتون في ألا توجد حلول إطلاقاً، لأنّ المشكلات إن اختفت انقطعت "لقمة العيش"
البعض قال إنّه أراد إرسال رسالة استهانة للقشتاليين بأنّه لا يعبأ بأعدادهم مهما كانت، والبعض اعتبرها سَقْطة منه رحمه الله وكانت سبباً في عودة ألفونسو الثامن بعد 18 سنة للانتقام من هزيمته بنصرٍ مُدَوٍ على الموحدين في معركة العقاب بعد وفاة المنصور، لكن في رأيي الشخصي وبتتبع حياة المنصور وزهده في الدنيا وسعيه الدؤوب لفعل الخير وتقديم المسالمة على الحرب فإنّه لم يفعل ذلك إلا رغبةً منه في مد غصن زيتون لجيرانه، أنّ الأرض تسعنا جميعاً وبإمكاننا التعايش رغم اختلاف أعراقنا وألسنتنا وأدياننا، ما يؤكد ذلك أنه بعد استمرار ألفونسو في مناوشاته وقيام المنصور بحصار طليطلة ومشارفتها على السقوط قرر الرحيل بعد أن خرجت إليه أم ألفونسو وزوجته وبناته يبكين ويطالبنه بالإشفاق عليهم وعلى مَن بالمدينة المحاصرة!
قبلها بسنوات قليلة كان صلاح الدين الأيوبي على أبواب معركة ضروس ضد ريتشارد قلب الأسد، وما أنْ عَلِمَ بمرض خصمه حتى أرسل له طبيبه الخاص ليُعالجه رغم أنّ هذا الخصم قد جاء بجيوش أوروبا لاستئصاله، القادة العظماء لا يظهرون في الأيام المريحة ولا في ظل الظروف الاعتيادية، لكنهم يخرجون فعلاً في أصعب الأوقات ليكشفوا عن عظمة نفوسهم وبُعْد تفكيرهم، أنّ الدم ليس حلاً للمشكلات وأنّ القتال ليس وسيلة للتعايش وأنّ إذكاء الكراهية ضد الآخر وغرس بذور الرفض له لا يمكن أن تكون ذات حصادٍ نافعٍ في مستقبل الأيام.
عندما دخل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً وصُفَّ أمامه كل كبراء قريش الذين حاربوه وآذوه وحرصوا على قتله وتأليب القبائل لقتاله كما روى ذلك ابن إسحاق، ظنّ الجميع أنه سيقتص منهم جزاء لسوء صنيعهم في السنين الماضية، لكن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم ضرب للبشرية قاطبةً مثلاً في العفو عند المقدرة وترسيخ بنيان للتسامح والتعايش مع الآخر وهو يقول: "اذهبوا فأنتم الطُلقاء" !
إنّ طريق الاقتتال سهل لِمَن عَدِمَ وسائل حل المشاكل بعيداً عن إزهاق أرواح البشر، فالحرب كما يقول المفكر الألماني والحائز على نوبل للآداب عام 1929 توماس مان هي "هروب الجبان عن مواجهة مصاعب السلام"، لكن الصعب هو أنْ تُخالِف الفكر الذي توارثه البشر وغذّاه بعض الكُتّاب والسياسيين والمحسوبين على الأديان السماوية من حتمية التصادم وتجذّر الخلاف وديمومة الصراع للأبد، وهو فكرٌ لم يُخلِّف وراءه إلا بيوتاً محطمة وأُسَراً ممزّقة وبحاراً لا تتوقف من الدماء ورياحاً لا تهب إلا وهي مُحمّلة بكراهية الآخر وبخسه حقه والافتئات عليه
"ما يمدح السوق إلا من ربح فيه" كما يقول مَثَلُنا الإماراتي، لذلك لن تروق فكرة طيّ أوراق الماضي وفتح صفحات جديدة من التعايش والتناغم مع الآخرين للكثير من المنتفعين من الوضع المغلوط، وأولئك الذين يتباكون على المشاكل لكنهم لا يقدّمون حلولاً، وربما يستميتون في ألا توجد حلول إطلاقاً، لأنّ المشكلات إن اختفت انقطعت "لقمة العيش" وأدبرت أضواء الشهرة عن المتكسّبين بها والمقتاتين على بقائها، أقول هذا في العموم وبأمر يشمل قارات العالم وليس بمن يحاول حصر التوجيه إلينا، فديننا يدعونا للخير ويحضنا على درء المفاسد، وبلادنا منذ تأسيسها وهي تنهل من معين زايد عليه رحمة الله حب الناس وحب فعل الخير، فليس التسامح علينا بجديد بل هو دأبنا وديدنا الذي ولدنا عليه ونعيش به وسنبقى عليه بإذن الله تعالى.
إنّ القرارات الصعبة والمنعطفات التاريخية الحرجة تحتاج إلى رجالٍ بحجمها، فالتعامي عن المشكلة لن يحلّها، وتجاهلها لن يُلغيها، واستخدام نفس المعالجات السابقة لن ينتهي بنا إلا لذات النتائج، التسامح لا يعني أن تُلغي هويتك أو تستهين بمعتقداتك أو تُميّع منظومتك القيمية وتذوب في الآخر، هذا أمر لا يقبله عاقل بالتأكيد، ولكنّ التسامح يعني أن تتعايش مع الآخر وتتناغم معه ويكمّل أحدكم الآخر في إعمار الأرض وبناء غدٍ جميل يسع الجميع، التسامح والتعايش هما نقطة التوازن المطلوب والغاية المرجوة، فلا رفض للآخر لكنها أيضاً ليست ذوباناً في كياناته.
نقلاً عن "البيان"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة