ذكرني الجدل الدائر حالياً بين بعض المحللين والمراقبين حول الانسحاب الأمريكي من منطقة الشرق الأوسط.
بناء على تفسيرات صدور تقرير مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي بكتاب المفكر الخليجي المعروف الدكتور محمد غانم الرميحي، الذي صدر في عام 1986، وحمل عنوان "الخليج ليس نفطاً"، يفنّد فيه أهمية منطقة الخليج في الاستراتيجية الدولية، وأن تلك الأهمية لا تكمن في النفط فقط، وذلك رداً على تعليقات بعض المثقفين، موضحاً أن هناك أشياء أخرى أكثر أهمية لها علاقة بالحضارة الإنسانية.
لذلك وجدت أنه بالإمكان الاستعانة بجزء من هذا العنوان لهذا الكتاب القيم بعدما ترددت مقولات بأن المخزون النفطي الأمريكي الداخلي هو السبب الذي يقف وراء السياسات الأمريكية غير المتزنة مع الدول الخليجية، خاصة خلال فترة الرئيس الأسبق باراك أوباما، وحالياً هناك مؤشرات تقول "ربما تعيدنا إلى أيام أوباما مع اختلاف التأثير". وحتى لو افترضنا أن هذا التفسير يحمل جزءاً من الصحة، ولكن ليس بهذه البساطة فالمسألة فيها الكثير من التفاصيل.
من باب إحياء الذاكرة، فمنذ عهد الرئيس الديمقراطي جيمي كارتر الذي حكم الولايات المتحدة الأمريكية خلال الفترة ما بين 1977 و1981 وصولاً إلى الإدارة الحالية للرئيس جو بايدن فإن منطقة الشرق الأوسط لم تخرج من الجدل الفكري للاستراتيجيين الأمريكيين وصناع القرار فيها، بل كانت تمثل القضية الرئيسية بين البقاء أو الانسحاب منها تحت ذرائع تراجع أهمية المنطقة من الاستراتيجية الأمريكية دون أن يتذكروا أن هذه المنطقة حتى فترة ما قبل النفط كانت محل تنافس القوى الدولية، وأنه في كل مرة يحاول رئيس أمريكي الخروج من المنطقة يكتشف خطأ قراره فيأتي رئيس آخر يحاول استعادة موقع أمريكا في المنطقة، آخرها محاولة الرئيس دونالد ترامب.
ورغم أن الحديث عن الخروج الأمريكي من المنطقة اتسم خلال فترات ماضية بالسرية وعدم الجهر بها أو أنه حديث يدور في دوائر صنع القرار، إلا خلال فترة الرئيس باراك أوباما الذي أعلنت وزيرة خارجيته في ذلك الوقت هيلاري كلينتون أن الأهمية الاستراتيجية الآن في جنوب شرق آسيا، وتم فعلاً سحب القوات الأمريكية من أفغانستان والعراق، لكن النتائج والتداعيات التي جاءت من وراء قرار أوباما وغيره من القرارات التي اتخذها كانت أهمها انتشار الإرهاب والتطرف من خلال تنظيم "داعش" وعودة "القاعدة" في المنطقة من خلال عراب الفوضى في المنطقة النظام الإيراني، وهددت معها الاستقرار العالمي وليس المنطقة.
هذه التداعيات دفعت بإدارة الرئيس دونالد ترامب إلى الابتعاد عن التفكير في المغادرة أو التفكير الجدي في الانسحاب من المنطقة، بل إنه اتخذ قراراً يعتبر حتى الآن هو الأكثر جرأة في التعامل مع التجاوزات الإيرانية، عندما أمر باغتيال الجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في العراق، في يناير 2020، ثم أتبعه بعقوبات اقتصادية ضد النظام الإيراني "الضغوط القصوى" تعتبر هي الأشد في تاريخ العلاقات المتوترة بين أمريكا وإيران.
عاد الحديث مؤخراً عن تراجع أهمية دول الخليج في الاستراتيجية الأمريكية من خلال "التقرير الاستنتاجي" حول مقتل المواطن السعودي جمال خاشقجي، وتم بناء تصورات وهمية حوله ولكن دون تقييم حقيقي ناحية الدور المهم الذي تقوم به هذه الدول في الاستراتيجية الدولية والدور الإقليمي للمملكة العربية السعودية في العديد من قضايا العالمية التي لا يمكن للأمريكان إدارتها دون تعاون معها، خاصة في ملفات مثل: مكافحة الإرهاب والتطرف في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك قضية السلام في المنطقة والخلاف الفلسطيني – الإسرائيلي، وحتى مسألة وضع حد للتجاوزات الإيرانية التي لا حدود لها في استهداف مصالح وحلفاء أمريكا، هذا غير العلاقات الاقتصادية والتجارية التي تربط البلدين ومعها دول المنطقة الأخرى، وهنا وجب التذكير لمن يفرح بتغيير المواقف الأمريكية أن الشرق الأوسط ليس نفطاً إذا كان المقصود بالشرق الأوسط هناك دول الخليج العربي.
تكفي الرئيس بايدن عمليات استهداف القوات الأمريكية في قاعدة عين الأسد بأربيل، مؤخراً، باعتباره دليلاً على أنه مجرد التفكير في الانسحاب من المنطقة يعني تخريب المصالح الأمريكية واهتزاز صورتها في مسألة قيادة السياسة الدولية. أما الاعتقاد بأن الضرر سيصيب الدول الخليجية الحليفة للولايات المتحدة فهو اعتقاد خاطئ في ظل حالة من التنافس الدولي على المنطقة لمن يريد التحكم في النظام العالمي، كما أن قادة دول المنطقة يتعاملون مع كل دول العالم بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية بواقعية سياسية وليس برد فعل.
مع أن السياسة الخارجية الأمريكية خلال الفترة الممتدة من "كارتر- بايدن" كانت تتأرجح بين المثالية والواقعية، فإن المشترك بينهما الحفاظ على العلاقات الأمريكية -الخليجية برغم كل الاختلافات، خاصة في مواجهة ما يهدد استقرار المنطقة وبالتالي العالم، فهل يدرك الفريق الموجود على السلطة حالياً محاذير المساس بها؟!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة