مستقبل الهيمنة.. كيف تعزز إعادة التموضع العسكري قوة أمريكا؟

نقاشات حول إعادة رسم خارطة الانتشار العسكري لأمريكا والتزاماتها العسكرية في أوروبا وآسيا قد تدفع بوصلتها نحو النصف الغربي من الكرة الأرضية، في تعديل تفرضه تحولات عديدة، مدفوعة بعوامل اقتصادية وتقنية واستراتيجية متغيرة.
وبحسب تحليل لـ«فورين أفيرز»، فقد ظهر في قلب هذا الجدل اتجاهان متعارضان: الأول يدعو إلى الحفاظ على التحالفات التقليدية والوجود العسكري المكثف، والثاني يطالب بإعادة تقييم جدوى هذه الاستراتيجية في ظل التغييرات الجيوسياسية والاقتصادية الحديثة.
وبينما يبدو النقاش في بعض جوانبه مشحونًا بالعواطف والقيم الأخلاقية، فإن جذور السياسة الدفاعية الأمريكية لطالما استندت إلى اعتبارات واقعية تتعلق بالمصالح القومية وأولويات الأمن القومي.
تحولات في المشهد العالمي
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، قامت الاستراتيجية العسكرية الأمريكية على مبدأ احتواء الخصوم المحتملين من خلال نشر قواعد وقوات في مواقع استراتيجية حول العالم، خاصة في أوروبا واليابان.
في الخمسينيات، كان هذا التموضع مبررًا بواقع أن هذه المناطق مثلت مراكز اقتصادية وصناعية كبرى، وأن تركها دون حماية كان سيعني ترك فراغ استراتيجي يمكن أن تستغله قوى معادية.
لكن بعد أكثر من سبعين عامًا، لم تعد الظروف التي أسست لهذه الاستراتيجية قائمة بالكيفية نفسها.
فعلى المستوى الاقتصادي، تراجعت الأهمية النسبية لأوروبا واليابان مقارنة بفترة الحرب الباردة.
فوفقًا لصندوق النقد الدولي، انخفضت حصة الاتحاد الأوروبي من الناتج المحلي الإجمالي العالمي إلى 14% في عام 2024، مقارنة بمستويات أعلى بكثير في العقود الماضية.
أما اليابان، التي كانت تمثل 14% من الاقتصاد العالمي في التسعينيات، فقد تراجعت حصتها إلى 3% فقط.
في المقابل، استمرت الولايات المتحدة في الحفاظ على موقعها الاقتصادي القوي، مع توسع نفوذ قوى ناشئة مثل الصين والهند.
هذا التغير الجذري يثير تساؤلًا جوهريًا: هل لا تزال أوروبا واليابان تستحقان أولوية الدفاع الأمريكي كما في السابق؟
تطور التهديدات والردع
إضافة إلى ذلك، شهدت التكنولوجيا العسكرية تطورات كبيرة غيرت طبيعة التهديدات والردع العسكري.
فانتشار الصواريخ الدقيقة والطائرات المسيرة والأسلحة السيبرانية جعل القواعد الأمريكية التقليدية، خاصة تلك القريبة من الخصوم، أكثر عرضة للخطر.
فلم تعد الحرب تعتمد فقط على الجيوش التقليدية والحدود الجغرافية، بل أصبح من الممكن تنفيذ هجمات مؤثرة دون الحاجة إلى جيوش جرارة أو احتلال أراضٍ.
هذا الواقع الجديد يعيد طرح مسألة مدى فاعلية الانتشار العسكري التقليدي مقارنة باستراتيجيات أكثر مرونة تعتمد على القوة بعيدة المدى والتواجد الاستراتيجي في مواقع أقل عرضة للهجوم المباشر.
مقاربة جديدة للأمن القومي
في ظل هذه التحولات، تبرز الحاجة إلى إعادة تقييم التموضع العسكري الأمريكي بما يضمن حماية المصالح الوطنية دون الانخراط في التزامات غير ضرورية أو مكلفة.
أحد الحلول المطروحة هو تقليل الاعتماد على القواعد الأمامية المنتشرة في مناطق الصراع المحتملة، مقابل تعزيز البنية العسكرية داخل نصف الكرة الغربي، مع تطوير قدرات هجومية بعيدة المدى تتيح التدخل عند الضرورة دون الحاجة إلى وجود ميداني مكثف.
هذا التوجه ليس جديدًا تمامًا؛ فقد حاولت الولايات المتحدة تبنيه خلال إدارة دوايت أيزنهاور في الخمسينيات عبر سياسة «النظرة الجديدة»، التي ركزت على الردع النووي وتقليل الاعتماد على القوات التقليدية المنتشرة عالميًا.
لكن في ذلك الوقت، كانت هذه الاستراتيجية محدودة بسبب القيود التكنولوجية وتكاليف أنظمة الدفاع الجوي، ما جعل الانتشار العسكري الواسع أكثر واقعية.
أما اليوم، فقد أدى التقدم في الذكاء الاصطناعي، والطائرات المسيرة، والصواريخ البعيدة المدى إلى تغيير هذه المعادلة، ما يجعل إمكانية تنفيذ هذه الاستراتيجية أكثر جدوى من أي وقت مضى.
إن التحول نحو هذا النموذج الجديد لا يعني التخلي عن التحالفات التقليدية، بل إعادة تعريف أدوارها وفق المصالح الأمريكية الراهنة.
فبدلًا من تحمل العبء الدفاعي الأكبر عن دول مثل ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية، يمكن للولايات المتحدة تشجيع هذه الدول على تحمل مسؤوليات دفاعية أكبر، مع الاحتفاظ بقوة تدخل سريعة عند الضرورة.
نحو استراتيجية أكثر استدامة
الانتقال إلى استراتيجية دفاعية جديدة يتطلب توازنًا دقيقًا بين تقليص الانتشار الميداني وتعزيز القدرات الهجومية.
فبينما يجعل التموضع العسكري داخل الأراضي الأمريكية القوات أكثر أمانًا، إلا أن ذلك قد يضعف الردع إذا لم يقترن بقدرة على التدخل السريع والفعال في حال وقوع تهديدات ضد الحلفاء أو المصالح الأمريكية.
لذلك، فإن الجمع بين تطوير درع دفاعي قوي في نصف الكرة الغربي، والاستثمار في تقنيات الردع الحديثة، والحفاظ على قدرة التدخل السريع يمثل مقاربة أكثر استدامة للأمن القومي الأمريكي.
كما أن هذا التحول قد يتطلب إعادة صياغة العلاقات مع بعض الحلفاء التقليديين وبناء شراكات جديدة.
فقد تصبح دول مثل الفلبين، فنلندا، والسويد ذات أهمية أكبر في الاستراتيجية الأمريكية المستقبلية، فيما قد يتم تقليص الالتزامات تجاه مناطق لم تعد تشكل أولوية استراتيجية.
دفاع قائم على الحقائق
ووفق التحليل، فإن «النقاش حول مستقبل التموضع العسكري الأمريكي لا ينبغي أن يبقى محصورًا بين دعاة العزلة ودعاة التمدد العسكري غير المشروط. بل يجب أن يستند إلى تقييم موضوعي للحقائق الجيوسياسية والاقتصادية والتكنولوجية الحالية».
وإذا كانت أوروبا واليابان لم تعودا تمثلان نفس الأهمية الاستراتيجية كما في القرن العشرين، وإذا كانت القواعد العسكرية التقليدية أصبحت أكثر عرضة للخطر وأقل فاعلية، فإن إعادة التفكير في الاستراتيجية الدفاعية يصبح ضرورة لا خيارًا.
إن تبني استراتيجية أكثر مرونة لا يعني التخلي عن الدور العالمي للولايات المتحدة، بل إعادة صياغته ليكون أكثر انسجامًا مع الواقع الحالي، وأكثر قدرة على مواجهة التهديدات المستقبلية بفاعلية وكفاءة.
التداعيات الجيوسياسية
رغم أن تقليص الوجود العسكري الأمريكي قد يبدو منطقيًا من منظور الكفاءة الدفاعية، إلا أنه يطرح تساؤلات حول مستقبل العلاقات الأمريكية مع الحلفاء التقليديين.
فمن شأن هذا التحول أن يدفع أوروبا واليابان إلى تبني سياسات دفاعية أكثر استقلالية، ما قد يؤدي إلى سباق تسلح جديد في أوروبا وآسيا.
كذلك، قد يُنظر إلى تقليص الالتزامات العسكرية الأمريكية على أنه تراجع عن دورها كضامن للاستقرار العالمي، ما قد يشجع قوى مثل الصين وروسيا على توسيع نفوذها الإقليمي.
في المقابل، يمكن للولايات المتحدة أن تعوض تراجع وجودها العسكري التقليدي بتطوير نموذج جديد للتحالفات الأمنية، يعتمد على التعاون الاستخباراتي، والتكنولوجيا العسكرية المتقدمة، والقدرات السيبرانية، بدلًا من الاعتماد على القواعد العسكرية التقليدية.
لذا فإن إعادة رسم الخريطة العسكرية الأمريكية ليست مجرد قضية تقنية أو لوجستية، بل هي قرار استراتيجي سيحدد شكل النظام العالمي لعقود قادمة، ومدى قدرة الولايات المتحدة على البقاء كقوة مهيمنة في عالم يشهد تحولات غير مسبوقة.