خلّف الربيع العربي وراءه فصولاً من الانحطاط والقبح والسوقية، ربما كان غياب الدولة أو ضعفها وارتباك الأجهزة الأمنية وراء تفشي الظاهرة.
لا يمكن الفصل بين التغيرات السلوكية التي طرأت على المجتمعات العربية وبين ذلك الربيع العربي الذي ضربت رياحه البنية الأخلاقية والمجتمعية لدول عدة في المنطقة، وأفرز خروجاً على الأخلاق والأعراف والآداب، إلى درجة جعلت من يرفعون شعارات دينية يتفاخرون بسب معارضيهم وشتمهم، ومن يتحدثون عن ظلم الحكام وبطش الأنظمة لا يتوانون عن اغتيال منافسيهم معنوياً وحرق خصومهم سياسياً. تبدو الحالة أكثر وضوحاً في مصر لكون البلد نجا من آثار الفوضى وحكم «الإخوان» وحمى الثورات والاضطرابات، لكن المجتمع المصري لم يعد إلى طبيعته الهادئة الرصينة، حيث لا تزال الأنماط السلوكية التي سادت وتفجرت وعصفت بالمجتمع بعد يناير/كانون الثاني 2011، تظهر في بعض المناقشات أو الاحتكاكات أو عند أي نزاع، وهذا الانفلات اللفظي والتجاوز الأخلاقي واستخدام الكلمات والعبارات والجمل الحادة والجارحة، يجد من يدافع عنه ويروجه بل أحياناً من يعتبره محل فخر واعتزاز!!.
إذا كانت الدولة تسعى إلى طي صفحة «الإخوان» وتخطي آثار الربيع العربي المدمرة، فعليها أن تدرك خطورة تداعيات فصول البذاءة التي تحتاج أيضاً إلى مشروع قومي يتم بموجبه فرض الانضباط على الجميع الكبير والصغير، المسؤول والمواطن
قد يعتقد البعض أن التجاوزات في الملاعب مثلاً قديمة، وأن الشغب الجماهيري وحتى الاشتباكات في ساحات كرة القدم لا تقتصر على مصر وحدها، وقد يرصد أحدهم معارك أفضت إلى ضحايا على العشب الأخضر أو في المدرجات على خلفية مباراة أو منافسة، لكن الربيع العربي وآثاره المدمرة جعلت السلوك الجماعي المسيء ينتقل من المدرجات إلى الاستديوهات والمقاهي والشوارع، وحتى في الجلسات الخاصة بين الأفراد، ورسخت الفوضى اعتقاداً لدى أي طرف بحقه في النيل من الأطراف الأخرى. لم يعد عيباً خروج لفظ جارح من مسؤول أو شخص مشهور أو رمز من رموز المجتمع، حتى بدا كأن التطور الطبيعي لأي مجتمع أن يتخلى عن الأخلاق وأن يجهر رموزه ومشاهيره وجماهيره بالبذاءة والانحطاط!! ومن الرياضة الى السياسة، ومنها إلى الفن، حيث سار الانفلات في مسارات متعددة وضربت السوقية مجالات عدة كثيرة حتى باتت الوقاحة القاعدة والالتزام هو الاستثناء. يكفي هنا أن تراجع هتافات النشطاء في ميدان التحرير لترصد قاموس الشتائم وسيمفونية السباب، أو تراجع برامج «التوك شو» التي احتلها أثناء سنوات الفوضى هؤلاء النشطاء ورموز النخبة السياسية والشخصيات العامة المحسوبة على المعارضة و"الإخوان"، لتكتشف إلى أي حد كانت المبالغة في الخروج على السلوك المتحضر لمحاولة التنصل من علاقة هذا الناشط بنظام مبارك، أو حرص ذلك السياسي على إبراز ثوريته، أو تفاني هذا الإخواني في تنفيذ تعليمات مرشده.
خلّف الربيع العربي وراءه فصولاً من الانحطاط والقبح والسوقية، ربما كان غياب الدولة أو ضعفها بعد سقوط حكم مبارك وارتباك الأجهزة الأمنية وعدم تنفيذ القانون على الكل وراء تفشي الظاهرة ورسوخها وامتدادها لفترة طويلة، ناهيك عن سعي المنصات الإعلامية القطرية واللجان الإلكترونية الإخوانية الدائم إلى سكب البنزين على كل أزمة وإشغال المجتمع في صورة دائمة، وتحريض الكل ضد الكل والصيد في كل مياه عكرة لزيادة العكارة، وتحويل أي خلاف إلى عراك أو حرب.
كان اللوم ينصب على مواقع التواصل الاجتماعي ويتهمونها بالانفلات ويبحثون عن وسائل للسيطرة على ما فيها من خروقات، لكن التحريض على العنف واستهداف الناس بالباطل وتشويه الرموز وتغييب كل إنجاز، وتحويل المجرم إلى بطل مغوار، أفعال لم تعد تقتصر على ساحة الإنترنت، وربما صارت حولك في كل شارع أو ميدان أو مكان عام أو خاص، ناهيك عن وسائل الإعلام. هناك مئات المشروعات القومية في مصر تهدف إلى تحسين حياة الناس ورفع مستوى معيشتهم، لكنْ يبقى هناك مشروع يتعثر يتعلق بإعادة منظومة القيم والأخلاق وتطبيق القانون على الجميع، من دون مواءمات أو حسابات، وإذا كانت الدولة تسعى إلى طي صفحة «الإخوان» وتخطي آثار الربيع العربي المدمرة، فعليها أن تدرك خطورة تداعيات فصول البذاءة التي تحتاج أيضاً إلى مشروع قومي يتم بموجبه فرض الانضباط على الجميع الكبير والصغير، المسؤول والمواطن حتى لا يظل الناس يستحضرون عبارة عبدالله بن المقفع الشهيرة: «من أمن العقاب أساء الأدب»، وكثيرون ما زالوا يأمنون العقاب.
نقلا عن "الحياة"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة