محمد مدين.. جنرال الجزائر "الغامض" المتهم بـ"التآمر على الدولة والجيش"
محمد مدين الذي قاد جهاز المخابرات الجزائري لمدة 26 سنة وحليف بوتفليقة الذي مكنه من الاستفراد بالحكم إلى مهدد بـ"الإعدام" بتهم ثقيلة
محمد مدين.. الجنرال الذي حكم لمدة ربع قرن جهاز المخابرات الجزائري، يواجه اليوم تهماً خطرة تتعلق بـ"التآمر على سلطتي الدولة والجيش"، ويُجمع السياسيون في الجزائر على أن "وضعه في السجن" وبتهم ثقيلة لم يتوقعه حتى ألد أعدائه.
- لويزة حنون.. لقاء "مشبوه" يبدد نضال 30 سنة للمرأة الحديدية بالجزائر
- من هو عثمان طرطاق رئيس المخابرات الجزائرية المقال؟
عُرف "جنرال الجزائر النافذ والأسبق" طوال قيادته جهاز المخابرات الجزائري باسم آخر وهو "الجنرال توفيق"، وهو الاسم الذي كان يُخفي شخصية غامضة تربعت على عرش أكثر الأجهزة الأمنية حساسية.
شخصية غامضة لم يسبق لها الظهور إعلامياً، إلى درجة "شكّك" معها كثير من الجزائريين في وجود تلك الشخصية لأنهم لا يعرفون شكلها، ومنهم من ذهب إلى حد اعتبارها "شخصية وهمية".
صورة نادرة جداً، والأمر نفسه عند النبش في معلومات متعلقة بسيرته أو مشوراه العسكري، غير أن "العين الإخبارية" تمكنت من الحصول على معلومات حصرية من مصادر أمنية وسياسية جزائرية، عن بعض خفايا الرجل الذي كانت له عديد الأوصاف التي تؤكد أنه كان "جنرالا ورجل الجزائر القوي" طوال 25 سنة.
من بينها "صانع الرؤساء"، "رأس حربة ضباط فرنسا" (ضباط جزائريون عملوا في الجيش الفرنسي ثم التحقوا بالثورة التحريرية الجزائرية سنوات الخمسينيات)، و"صانع الأزمات وحلولها"، و"جنرال العشرية السوداء" (سنوات التسعينيات التي عرفت تغول الإرهاب، وخلفت مقتل أزيد من 250 ألف جزائري)، و"الجنرال الظل".
من هو الجنرال توفيق؟
اسمه الكامل والحقيقي "محمد الأمين مدين"، ولد في 14 مايو/أيار سنة 1939 بمنطقة "قنزات" التابعة لمحافظة سطيف (شرق الجزائر)، فيما ذكرت وسائل إعلام جزائرية أنه من مواليد يونيو 1941، ويحمل رتبة "فريق" وهي أعلى رتبة في الجيش الجزائري.
نشأ "الجنرال توفيق" كما يسمى في منطقة "بولوغين" بالجزائر العاصمة خلال فترة الاحتلال الفرنسي للجزائر، حيث عمل ميكانيكاً في بواخر ميناء الجزائر.
واختلفت الروايات حول مكان تدريبه العسكري بعد التحاقه عام 1957 بصفوف "جيش التحرير الوطني" (الجناح العسكري لجبهة التحرير الذي حارب الاستعمار الفرنسي).
روايات تقول إنه تلقى تكوينه العسكري في تونس على يد وزير الدفاع الجزائري الأسبق خالد نزار، وأخرى تذكر بأنه تدرب بمنطقة القبائل المعروفة بـ"الولاية التاريخية الثالثة".
انضم بعدها إلى جهاز المخابرات في عهد الراحل عبدالحفيظ بوصوف وزير الاتصالات العامة والتسليح في الحكومة الجزائرية المؤقتة، ولُقب حينها بـ"التوفيق".
بعد استقلال الجزائر عام 1962، تلقى الفريق المتقاعد محمد مدين تدريباً في موسكو لدى جهاز المخابرات السوفياتية (كي جي بي).
وعقب عودته إلى الجزائر تقلد عدة مناصب، أولها في ستينيات القرن الماضي كضابط مخابرات بالناحية العسكرية الثانية بمحافظة وهران (غرب الجزائر)، التي كان يقودها آنذاك الرئيس الجزائري الأسبق الراحل الشاذلي بن جديد (1980-1992)، ثم مسؤولاً للأمن الوطني بالمحافظة ذاتها.
عام 1980 عينه الشاذلي بن جديد قائداً للمعهد العسكري للهندسة بالجزائر العاصمة، ثم مديراً للمديرية الجزائرية للأمن العسكري، ثم محلقاً عسكرياً بسفارة الجزائر في ليبيا، وهو المنصب الذي لم يمكث فيه إلا عاماً واحداً.
وبحلول العام 1986، عُيّن قائداً للأمن الرئاسي، ثم مديراً مركزياً لأمن الجيش عام 1988 بالتزامن مع الانتفاضة الشعبية التي عُرفت بـ"أحداث 5 أكتوبر"، وكان حينها برتبة عقيد.
وفي 1990، عينه الرئيس الجزائري الأسبق الشاذلي بن جديد رئيساً لـ"دائرة الاستعلام والأمن"، وهي التسمية الرسمية للمخابرات الجزائرية، خلفاً للجنرال المستقيل محمد بتشين، وهو المنصب الذي جعله يتقلد رتبتي جنرال ثم فريق.
حاكم الظل
من هنا بدأت قصة الجنرال الغامض الذي قيل إنه "حكم الجزائر من وراء الستار"، عاصر خلالها 5 رؤساء للبلاد وهو على رأس جهاز المخابرات (الشاذلي بن جديد، محمد بوضياف، علي كافي، اليامين زروال، عبدالعزيز بوتفليقة).
عقب الفوز الوهمي لما يعرف بـ"الجبهة الإسلامية للإنقاذ" وإلغاء الجيش الجزائري المسار الانتخابي سنة 1992، دخلت البلاد في أخطر أزمة أمنية بتاريخها عقب تبني الجبهة بجناحيها العسكري والسياسي العمل الإرهابي ضد الجيش والدولة في الجزائر.
اتُهم حينها محمد مدين مع بعض صقور المخابرات السابقين بـ"التحالف مع الجبهة الإسلامية" لضرب الجيش الجزائري والاستيلاء على قيادة الأركان، حسب ما ذكرته مصادر أمنية وسياسية جزائرية لـ"العين الإخبارية".
خلال تلك الفترة تحول جهاز المخابرات الجزائري إلى جهاز لمكافحة الإرهاب، خاصة بعد أن "دخلت دول أجنبية على خط تمويل وتسليح وتدريب جيش الجبهة الإرهابي وبقية التنظيمات الإرهابية، ما جعل الأمور تخرج عن سيطرة جناح في المخابرات الجزائرية في دعمها الخفي للجبهة"، وفق شهادات قدمتها مصادر أمنية وسياسية جزائرية لـ"العين الإخبارية".
تمكن خلالها "الجنرال توفيق" من السيطرة على كافة الأجهزة التابعة للمخابرات الجزائرية وحكم الجزائر بقبضة من حديد مع بعض جنرالات المخابرات، وكان له الدور الكبير في إقناع رئيس مجلس الدولة الأسبق محمد بوضياف بالعودة من منفاه بالمغرب، قبل أن يتم اغتياله في ظروف غامضة في يونيو 1992 بمحافظة وهران.
وتباينت خلالها مواقف الجزائريين من الدور الذي لعبه رئيس المخابرات الأسبق، بين من كان يعتبره "مجرم حرب" وبين مدافع عنه ويرى فيه "منقذاً للجزائر" من الإرهاب، لكنهم اتفقوا على أن "يده كانت الأطول في التعيينات والقرارات الكبيرة" التي عرفتها البلاد طوال 25 سنة من قيادته جهاز المخابرات.
حليف مؤقت لبوتفليقة
حصلت "العين الإخبارية" على معلومات حصرية من مصادر أمنية وسياسية جزائرية، عادت إلى سيناريو تولي الرئيس الجزائري المستقيل عبدالعزيز بوتفليقة سدة الحكم في الجزائر في أبريل/نيسان 1999، وعلاقته بالجنرال "توفيق".
وذكرت المصادر أن الفريق محمد مدين بمعية من يعرفون بـ"ضباط فرنسا" اتفقوا مع بوتفليقة على الترشح لرئاسيات أبريل/نيسان 1999، مع إعطائه ضمانات بعدم التدخل في صلاحياته.
"وبحكم معرفة بوتفليقة الجيدة بخفايا النظام الجزائري وما تعلق منه بطريقة تسيير بعض الجنرالات للأمور، قرر التمرد عليهم قبل الإطاحة به، كما فعلوا مع بعض الرؤساء السابقين، وهنا قرر بوتفليقة التحالف مع رئيس جهاز المخابرات الأسبق محمد مدين ضد حلفائه السابقين (حلفاء مدين) وهم وزير الدفاع الأسبق خالد نزار وقائد أركان الجيش الجزائري الأسبق الراحل الفريق محمد العماري والجنرال محمد تواتي والجنرال الراحل العربي بلخير"، حسب المصادر ذاتها.
وكشفت أن "اتفاقاً جرى بين الرئيس الجزائري المستقيل والجنرال توفيق يقضي بتفرد بوتفليقة بالحكم، مع ضمان استقلالية جهاز المخابرات عن قيادة أركان الجيش، ليعلن الجنرال تمرده على بقية جنرالات المخابرات الذين قرروا دعم مرشح آخر في رئاسيات 2004 ضد بوتفليقة، لكن قوة وشبكة الجنرال توفيق رجحت الكفة لبوتفليقة"، ليتمكن الأخير من إبعاد خصومه في جهاز المخابرات.
"بدأ تصدع" الجناح المعروف بـ"ضباط فرنسا"، "ليتمكن بوتفليقة من الإمساك بزمام الحكم في الجزائر بتزكية من حليفه المؤقت الفريق محمد مدين"، وعقب فوزه بانتخابات 2004 أقال بوتفليقة قائد الأركان الفريق محمد العماري، وعيّن الفريق أحمد قايد صالح خلفاً له.
عام 2009، بدأت علامات المرض تظهر على الرئيس الجزائري المستقيل عبدالعزيز بوتفليقة، ليغيب عن المشهد منذ 2013 ويتصدر شقيقه السعيد بوتفليقة مشهد الحكم في الجزائر، ليبدأ الصراع بين السعيد بوتفليقة ورئيس جهاز المخابرات محمد مدين.
تراجع النفوذ
ظهرت بوادر تراجع نفوذ "رجل الجزائر القوي" منذ الولاية الثالثة للرئيس المستقيل عبدالعزيز بوتفليقة، وازدادت مع الهجوم الإرهابي الذي استهدف منشأة غازية بمنطقة "تيقنتورين" (جنوب) في 2013، بسبب ما ذكره الإعلام المحلي "التدخل العسكري لإنقاذ الرهائن دون إعلام الرئاسة".
وفي العام ذاته، فتح جهاز المخابرات الجزائري أكبر ملفات الفساد خاصة في شركة "سوناطراك" النفطية، وقرر ملاحقة وزير الطاقة الأسبق شكيب خليل المعروف بكونه من أكثر المقربين من الرئيس الجزائري السابق عبدالعزيز بوتفليقة.
في يوليو 2015، قلد بوتفليقة الفريق محمد مدين "وسام الشجاعة"، غير أنه وبعد شهرين من ذلك أصدرت الرئاسة الجزائرية قراراً مفاجئاً يقضي بـ"إحالة الجنرال إلى التقاعد وإنهاء مهامه على رأس جهاز المخابرات" بعد 25 سنة من توليه المنصب، وسبق ذلك موجة تغييرات كبيرة على مستوى المخابرات والجيش منذ 2013.
وفي سبتمبر/أيلول 2016، أعلنت الرئاسة الجزائرية "حلّ" دائرة الاستعلام والأمن (جهاز المخابرات) وتعويضها بجهاز جديد تابع لها تحت مسمى "دائرة الشؤون الأمنية" يقوده الجنرال بشير طرطاق "كمنسق للأجهزة الأمنية" مع إلحاق بقية الأجهزة التابعة لجهاز المخابرات السابق بقيادة الأركان.
انهيار الجنرال الغامض
في 30 مارس/آذار الماضي، كشف قائد أركان الجيش الجزائري أحمد قايد صالح عن "اجتماعات مشبوهة تعقد في الخفاء للتآمر على مطالب الشعب وعرقلة مساعي الجيش ومقترحاته لحل الأزمة".
إضافة إلى اتهامه أطرافاً أسماها بـ"أصحاب النوايا السيئة" مشيراً إلى أنهم يقومون بإعداد مخطط لضرب مصداقية الجيش ومحاولة الالتفاف على مطلب الشعب، قبل أن يخرج الجنرال ببيان ينفي "اجتماعه السري".
وكشفت حينها وسائل إعلام جزائرية أن المقصود من حديث قايد صالح كان الجنرال "توفيق"، كاشفة عن "عقده اجتماعين مع شقيق بوتفليقة ورئيس المخابرات السابق بشير طرطاق وشخصيات سياسية أخرى وبحضور عناصر في المخابرات الفرنسية، بهدف الإطاحة بقائد الأركان".
في 16 أبريل/نيسان الماضي، اتهم قائد أركان الجيش الجزائري أحمد قايد صالح رئيس المخابرات الأسبق الفريق المتقاعد محمد بـ"محاولة عرقلة مساعي حل الأزمة"، ووجه له "آخر إنذار قبل اتخاذ الإجراءات القانونية الصارمة ضده".
وفي 4 مايو/أيار الماضي، استدعى القضاء العسكري الجزائري الجنرال المتقاعد محمد مدين برفقة الجنرال بشير طرطاق وشقيق بوتفليقة، ووجه لهم تهم "التآمر على سلطتي الدولة والجيش"، وأمر بإيداعهم الحبس المؤقت.
ورفض كل طلبات المحامين الإفراج المؤقت عنهما، فيما ذكر خبراء قانونيون لـ"العين الإخبارية" أن التهم الموجهة للجنرال "توفيق" ومن معه تصل عقوبتها لـ"الإعدام".