دلالات واضحة قد لا تخطئها عين.. ثلاثة مؤتمرات في شهر واحد بهدف واحد، دعم نضال الشعب الإيراني في مسعاه من أجل نيل حريته.
ما بين باريس وواشنطن وبروكسل.. يبدو أن حلم تغيير النظام الإيراني أصبح بالنسبة لخصومه ومعارضيه وطيف واسع من الشعب الإيراني أقرب من أي وقت مضى، فما بين العواصم الثلاث نشطت المعارضة الإيرانية بمختلف أطيافها وكثفت حراكها وجهودها في فضح ممارسات نظام الملالي، وفي حشد الدعم الدولي لتغيير هذا النظام بعد أن يئست من تغيير سلوكه، مستغلة في ذلك ظروفا داخلية هي الأسوأ على الإطلاق، ولحظة إقليمية وأخرى دولية قد تكون مثالية لتحقيق حلم الشعب الإيراني في التحرر منه وتخليص العالم والمنطقة من مغامراته ومؤامراته وتهوراته.
رفض فرنسا جميع الضغوط التي مارستها إيران لمنع انعقاد هذا المؤتمر قد يكون مؤشرا على تغير وشيك في الموقف الأوروبي.. خاصة أن رسائل الاحتجاج الإيرانية على عقد هذا المؤتمر لم تصل إلى حكومة فرنسا وحدها، بل وصلت إلى مجلس الشيوخ الفرنسي والبرلمان الأوروبي
ففي باريس تنطلق اليوم أعمال المؤتمر السنوي العام للمقاومة الإيرانية تحت عنوان "الانتفاضة من أجل التغيير في إيران" بمشاركة إيرانية وعربية ودولية بارزة، وفي واشنطن استضاف الكونجرس الأمريكي يوم الثلاثاء الماضي عددا من المنظمات الإيرانية المعارضة في مؤتمر بعنوان "دعم الديمقراطية والاحتجاجات الشعبية في إيران"، دعا إليه "المؤتمر الوطني الإيراني" وهو تجمع لأنصار الحقبة الملكية الإيرانية في واشنطن، وفي بروكسل استضاف البرلمان الأوروبي في الخامس من يونيو الجاري مؤتمرا بعنوان "دور إيران في شرق أوسط مضطرب".
دلالات واضحة قد لا تخطئها عين.. ثلاثة مؤتمرات في شهر واحد بهدف واحد، دعم نضال الشعب الإيراني في مسعاه من أجل نيل حريته والخلاص من نظام حكم سلطوي ثيوقراطي عبث بمقدراته وأهدر موارده في مغامرات خارجية، ويبقى مؤتمر باريس ذا الدلالة الأهم والأكبر، سواء من جهة توقيته أو من ناحية الدولة المستضيفة أو من حيث الجهة المنظمة، فالمؤتمر من تنظيم المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية الذي تعد منظمة مجاهدي خلق هي قلبه النابض ومحركه الرئيسي، المنظمة التي تأسست عام 1965 باتت أكبر فصيل سياسي إيراني معارض، وأصبح وجودها ونشاطها وتحركاتها كابوسا يؤرق النظام الإيراني الذي اتهمها بتأجيج الاحتجاجات الشعبية الواسعة التي اندلعت في إيران نهاية ديسمبر الماضي ورفعت شعار إسقاط نظام المرشد، المنظمة أصبح لها حضور كبير ومؤثر على الساحتين الداخلية والدولية، فداخليا تتحرك انطلاقا من رؤية قوامها إسقاط النظام وتشكيل نظام ديمقراطي بديل عابر للقوميات والطوائف، الأمر الذي يميزها عن بقية الجماعات المعارضة التي تعلي من شأن القوميات التي تنتمي إليها في سعيها لإنهاء هيمنة القومية الفارسية، لذا تركز منظمة مجاهدي خلق في محاولتها للتواجد داخل الساحة الإيرانية على الطبقة الوسطى المثقفة، ولعل ما يزيد من قوتها داخليا ومن قدرتها على التأثير عندما تحين لحظة الحقيقة، هو امتلاكها جناحا عسكريا قوامه نحو 4000 مقاتل لديهم خبرات قتالية كبيرة ومدربون على حروب الشوارع ويقيم معظمهم في ألبانيا بعد إخراجهم من العراق في 2012، وخارجيا لعبت هذه المنظمة دورا كبيرا في لفت أنظار المجتمع الدولي إلى خطورة النظام الإيراني بعد أن لعبت دورا كبيرا في كشف حقيقة برنامجه النووي ونشرت عددا كبيرا من التقارير والوثائق عن المواقع النووية السرية في إيران ما أكسبها مصداقية لدى العديد من الأطراف الدولية وأجبر الاتحاد الأوروبي برفع اسمها من قائمته للمنظمات الإرهابية في 2011، وكذلك فعلت وزارة الخارجية الأمريكية في 2012.
أما من حيث الدولة المستضيفة للمؤتمر فهي فرنسا.. الدولة التي تعوّل عليها إيران لإنقاذ الاتفاق النووي بعد انسحاب أمريكا منه. رفض فرنسا جميع الضغوط التي مارستها إيران لمنع انعقاد هذا المؤتمر قد يكون مؤشرا على تغير وشيك في الموقف الأوروبي.. خاصة أن رسائل الاحتجاج الإيرانية على عقد هذا المؤتمر لم تصل إلى حكومة فرنسا وحدها، بل وصلت إلى مجلس الشيوخ الفرنسي والبرلمان الأوروبي، معتبرة أن تحركات منظمة مجاهدي خلق على الأراضي الفرنسية تتعارض مع العلاقات الثنائية بين إيران وفرنسا، وبين إيران وأوروبا بشكل عام، لكن لا الجانب الفرنسي ولا الاتحاد الأوروبي التفت لهذه الاحتجاجات وأصر على عقد المؤتمر، فأكدت الحكومة الفرنسية أن نشاطات المقاومة الإيرانية على الأراضي الفرنسية تجري ضمن القوانين الفرنسية، ولم تكتف فرنسا بالسماح بقعد المؤتمر فحسب، بل إن عددا من أبرز رجال السياسة والأمن الفرنسيين يشاركون فيه ومن بينهم إيف بونيه، رئيس الاستخبارات الفرنسية الأسبق، ما قد يعطينا مؤشرا جديدا على ملامح تغير قد يطرأ على الموقف الأوروبي حيال طهران، بعد مؤشر آخر لا يقل أهمية تمثل في استضافة البرلمان الأوروبي في بروكسل لمؤتمر في مطلع يونيو الجاري عن انتهاكات النظام الإيراني لحقوق الإنسان وعن دور إيران في زعزعة أمن واستقرار الشرق الأوسط، وذلك في ظل حضور عدد كبير من الدبلوماسيين والسياسيين الأوروبيين ومراكز الأبحاث المؤثرة في صنع القرار الأوروبي.
أخيرا تبقى دلالة التوقيت، فالمؤتمر ينعقد في ظل لحظة مواتية، داخليا وإقليميا ودوليا.
فداخليا تعيش إيران على وقع مظاهرات وحراك شعبي لم ينقطع منذ ديسمبر الماضي؛ احتجاجا على تردي الأوضاع المعيشية للشعب الإيراني بشكل غير مسبوق وانتهاك حقوقه السياسية، هذه المظاهرات كشفت عن مدى هشاشة النظام الإيراني وعدم استعصائه على التغيير كما كشفت عن مدى وعي الشعب الإيراني الذي وضع خامنئي ورحاني في سلة واحدة وحمّلهما معا مسؤولية معاناته، هذه الاحتجاجات تجددت مرة أخرى الأسبوع الماضي وبشكل ربما أكثر خطورة، لأنها كشفت عن أن النظام الإيراني بدأ في فقدان قاعدة مؤيديه الرئيسية وهي مؤسسة البازار التي لعبت دورا بارزا في تقييد النظام الملكي ثم إسقاطه بفعل تحالفها مع مؤسسة رجال الدين، وجنت بسبب ذلك مكاسب سياسية كبيرة بعد الثورة تمثلت في تولي كثير من رموزها مناصب سياسية واقتصادية وبرلمانية بارزة، ولكن منذ أن عززت الشركات التابعة للحرس الثوري نفوذها في الاقتصاد الإيراني منذ عام 2008 ومكاسب وامتيازات هذه الطبقة أصبحت محل تهديد.. فشهدت أسواق طهران وأصفهان عامي 2009 و2010 إضرابات وإغلاقا للمحلات احتجاجا على فرض ضرائب إضافية على دخل تجار البازار، واستمرت هذه الاحتجاجات بشكل متقطع حتى عام 2012 إلى أن عادت الأسبوع الماضي في البازار بالعاصمة طهران، احتجاجات ندد خلالها مئات التجار الغاضبين بالانخفاض الحاد في قيمة العملة الإيرانية، لكنها سرعان ما اكتسبت طابعا سياسيا بعد أن ردد المتظاهرون شعارات مناهضة لخامنئي وروحاني ووصفوهما باللصوص وطالبوهما بالتنحي عن السلطة.
ولا تنفصل هذه اللحظة الداخلية المواتية التي يفقد فيها النظام الإيراني قاعدة مؤيديه وداعميه عن ظرف دولي أكثر مواتاة، في ظل وجود إدارة أمريكية ترى أن النظام الإيراني هو مصدر التهديد والخطر الرئيسي، وتضع مواجهته على رأس أولويات سياستها الخارجية عبر حزمة من الوسائل بدأت بتضييق الخناق عليه وتقويض اقتصاده عبر إعادة فرض العقوبات عليه بعد الانسحاب من "الصفقة النووية" مرورا بإعلان واشنطن أنها بصدد تشكيل "تحالف دولي ضد إيران وأنشطتها المزعزعة للاستقرار"، وبالتأكيد لن يكون خيار تغيير النظام مستبعدا من بين حزمة وسائل واشنطن في مواجهة طهران وإجبارها على تغيير سياستها داخليا وخارجيا، تجلى هذا في مواقف عدة وتصريحات كثيرة، كما يتجلى في الحضور الأمريكي البارز في مؤتمر باريس الذي يمثل واشنطن فيه كل من لويس فري، رئيس مكتب التحقيقات الفيدرالية الأمريكية الأسبق، ورودي جولياني المستشار القانوني للرئيس الأمريكي دونالد ترامب وعمدة نيويورك الأسبق، ونيوت جينجريتش، الرئيس الأسبق لمجلس النواب وأحد أبرز مستشاري ترامب، كذلك وليد فارس مستشار ترامب وعضو حملته الانتخابية.
ولا شك أن الاهتمام الأمريكي الواضح بمؤتمر باريس، ومن قبله مؤتمر الكونجرس، يعكس رغبة أمريكية في جمع شتات المعارضة الإيرانية وتوحيدها خلف هدف واحد، وهو إيجاد بديل لنظام الملالي في طهران.. وهو ما يعني أن الإدارة الامريكية وإن كانت قد أسقطت الخيار العسكري كآلية لتغيير النظام في طهران، لكنها لم تسقط استبداله بنظام ديمقراطي من خلال مساندة أي تحركات سلمية، سواء من خلال دعم حركات المعارضة في الخارج، أو دعم الحراك الجماهيري للشعب الإيراني في الداخل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة