تغلغل منخفض الضجيج.. أرقام صادمة تكشف عن خرائط النفوذ الإخواني في فرنسا
في فرنسا، حيث تُعرِّف الجمهورية نفسها بوصفها فضاءً للعلمنة والاندماج المدني، يتشكل على الهامش مشهد أكثر تعقيدًا مما يظهر في الخطاب الرسمي.
فبعيدًا عن الصور النمطية المبسّطة، يكشف الواقع عن تمدّد هادئ، تراكمي، ومنخفض الضجيج لأفكار الإخوان داخل شرائح من المجتمع المسلم، لا عبر الصدام المباشر، بل من خلال العمل الجمعياتي، والخطاب الهويّاتي، واستثمار سرديات المظلومية والتمييز.
هذا التغلغل لا يتخذ دائمًا شكل تنظيم مغلق، بل يتحرك في دوائر متداخلة تبدأ بالتعاطف الثقافي وتنتهي بالالتزام الأيديولوجي الصلب.
استطلاعات الرأي الحديثة تضع أرقامًا دقيقة أمام هذا المشهد الرمادي، وتُظهر أن الحضور الإخواني في فرنسا ليس ظاهرة هامشية ولا مقتصرة على نواة تنظيمية ضيقة، بل شبكة واسعة متعددة المستويات، تمتد من محافظين متأثرين بخطاب «الإسلام هو الحل»، وصولًا إلى نواة صلبة مؤدلجة تتبنى مشروع «التمكين» بوصفه مسارًا سياسيًا طويل النفس. تقريرنا التالي يفكك هذه الدوائر، ويقرأ الأرقام في سياقها الفكري والسياسي، بعيدًا عن التهويل أو التهوين، لفهم حجم الظاهرة وطبيعتها وحدودها.
أولًا: خريطة التغلغل الإخواني في المجتمع الفرنسي بالأرقام
تكشف نتائج الاستطلاع أن 23% من مسلمي فرنسا البالغين 15 عامًا فما فوق، أي نحو 874 ألف شخص، يصرّحون علنًا بتعاطفهم مع التيار الفكري لجماعة الإخوان المسلمين. في المقابل، يقرّ 13% (نحو 494 ألف شخص) بتعاطفهم مع جمعية «مسلمو فرنسا»، التي تمثّل الامتداد التنظيمي والفكري الأبرز للإخوان داخل البلاد.
وعند الانتقال من مستوى التعاطف العام إلى الانتماء الأيديولوجي الأكثر وضوحًا، تنخفض الأرقام، لكنها تظل ذات دلالة:
- %4.6 من مسلمي فرنسا (174 ألفا و800 شخص) يُصنَّفون أتباعا للفكر الإخواني بدرجات متفاوتة.
- %2.2 (83 ألفا و600 شخص) ينتمون إلى ما يُعرف بـ«النواة الصلبة» للأعضاء الفاعلين (فئة الأخ العامل).
ثانيًا: القرب الفكري والشخصيات المرجعية
تشير نتائج الجزء الثاني من الدراسة إلى أن 46% من المسلمين في فرنسا يقرّون بقربهم من شخصيات مرتبطة بفكر الإخوان المسلمين. ويعترف نحو 30% بتبنّيهم رؤية الإخواني طارق رمضان، حفيد مؤسس الجماعة حسن البنّا، بوصفه مرجعية فكرية.
وعلى مستوى أوسع:
- 23 % يشعرون بقرب فكري من التيار الإخواني.
- 13 % يعلنون تقاربهم مع جمعية «مسلمو فرنسا».
أكثر من أربعة من كل عشرة يرون أن الدفاع عن «قيم الإسلام» يمر عبر دعم أحزاب أو مرشحين ذوي مرجعية صريحة في الإسلام السياسي.
المتعاطفون الخارجيون.. الطيف الأوسع والأقل تنظيما
تمثّل هذه الدائرة القاعدة الاجتماعية الأوسع للفكر الإخواني. وهي تضم مسلمين محافظين، متدينين أو غير متدينين، غير منضوين تنظيميا في الجماعة، لكنهم:
- يتبنون مقولة «الإسلام دين ودولة».
- يرون في القيم الإسلامية حلًا لأزمات الحداثة الغربية.
- يتأثرون بخطاب المظلومية واتهام أي نقد للإخوان بـ«الإسلاموفوبيا».
ورغم أن 23–24% يصرّحون بتعاطفهم مع الإخوان في الاستبيان المباشر، فإن الاستبيان غير المباشر يُظهر أن 9.7% فقط (نحو 193 ألفا و800 شخص) لديهم معرفة فعلية بالأدبيات الإخوانية ومفاهيمها المؤسسة. هذا الفارق يعكس تعاطفًا عاطفيًا أكثر منه أيديولوجيًا منظّمًا.
«الأخ المُحبّ».. ردهة الانتظار التنظيمية
- تشمل هذه الدائرة 2.4% من مسلمي فرنسا (نحو 91 ألفا و200 شخص)، بحسب الاستطلاع، وهم:
- متعاطفون نشطون، غير منضوين رسميًا في الخلايا السرية (الأُسر).
- يشاركون في الأنشطة العلنية، الدعوية والجمعياتية.
- يشكّلون «العضلات» التي تعتمد عليها الجماعة في التمدد الاجتماعي.
هذه الفئة تمثّل المخزون البشري الذي يُفرز منه لاحقًا أعضاء «النواة الصلبة»، وفق معايير الكفاءة والالتزام والقدرة على الخدمة التنظيمية.
النواة الصلبة.. «الجهادية منخفضة الضجيج»
تمثّل هذه الدائرة 2.2% من مسلمي فرنسا (نحو 83 ألفا و600 شخص)، وهي نسبة تفوق بكثير تقديرات الاستخبارات الفرنسية الرسمية (500–600 عضو). ويُعزى هذا الفارق إلى:
- السرية المحكمة.
- ممارسة «التقيّة» التنظيمية.
- الفصل بين الواجهة العلنية والبنية السرية.
هذه النتائج تشير إلى أن الإخوان المسلمين في فرنسا ليسوا تنظيمًا سريًا محدودًا فحسب، بل منظومة فكرية متدرجة، تتغلغل في المجتمع عبر دوائر متداخلة تبدأ بالتعاطف الثقافي وتنتهي بالالتزام التنظيمي الصلب، إنها استراتيجية طويلة النفس، تراهن على الزمن، وعلى تحويل الهوية الدينية إلى أداة سياسية، في قلب واحدة من أكثر الدول الأوروبية تشددًا في الدفاع عن العلمانية.
تحديات حقيقية
من جانبه، قدم الباحث الفرنسي المتخصص في شؤون الإسلام السياسي، بيير إيمانويل ديبون، مقاربة معمّقة تشرح دلالات الاستطلاع، وتحذر من اختزاله في صدمة رقمية عابرة، معتبرًا أنه يعكس مسارًا تراكميًا طويل الأمد، يحمل تحديات حقيقية لمستقبل الاندماج والنموذج الجمهوري في فرنسا.
وقال ديبون في تصريحات لـ«العين الإخبارية»، إن «ما يكشفه هذا الاستطلاع ليس مجرد مواقف دينية، بل مؤشرات واضحة على تحول فكري وسياسي داخل جزء من المجتمع المسلم في فرنسا»، موضحًا أن «الاقتراب المعلن من شخصيات أو تيارات مرتبطة بالإخوان المسلمين يعكس نجاحًا طويل الأمد لاستراتيجية ترسيخ النفوذ الأيديولوجي، وليس بالضرورة نتيجة تطرف عنيف أو فجائي».
وبحسب الباحث الفرنسي، فإن «الإسلام السياسي، وخصوصًا في نسخته الإخوانية، لا يعمل عبر الصدام المباشر مع الدولة، بل من خلال بناء شرعية اجتماعية وثقافية داخل المجتمعات المحلية، ثم ترجمتها سياسيًا عبر الخطاب، والتمثيل، والضغط الانتخابي».
واعتبر أن نسبة 46% التي تعلن تقاربها مع شخصيات إخوانية «مرتفعة ودالة»، حتى وإن لم تكن جميعها ملتزمة تنظيميًا أو واعية بالمرجعية الفكرية الكاملة لهذا التيار.
وأوضح ديبون أن الإخوان «نجحوا في تقديم أنفسهم كمرجعية جامعة، خاصة لدى فئات شابة تشعر بالتهميش أو فقدان المعنى»، مشيرًا إلى أن «الدفاع عما يسمى قيم الإسلام يتحول تدريجيًا، لدى جزء من هؤلاء، إلى موقف سياسي مناهض للنموذج الجمهوري، حتى وإن لم يُصَغْ بذلك الشكل الصريح».
شكوك غربية
هذا يفسر تزايد الشكوك تجاه الديمقراطية الغربية، واعتبارها لدى بعض المستطلَعين منظومة «غير متوافقة» مع الإسلام، بحسب الباحث السياسي.
وأكد ديبون أن «الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في الأرقام، بل في استمرار التعامل مع الإسلام السياسي كقضية هامشية أو ظرفية»، معتبرًا أن «ما نشهده اليوم هو حصيلة عقود من التراكم الفكري والتنظيمي، وأن أي معالجة جدية يجب أن تكون سياسية، تربوية، وثقافية في آن واحد، لا أمنية فقط».
وتابع: «فرنسا أمام مفترق طرق: إما إعادة بناء مشروع اندماج واضح وحازم، أو ترك فراغ تملؤه أيديولوجيات تقدم نفسها كبديل شامل عن الجمهورية».
aXA6IDIxNi43My4yMTYuMTAzIA== جزيرة ام اند امز