نبيه بري.. 27 عاما من الجمود السياسي في لبنان
لم تنجح الانتخابات النيابية التي شهدها لبنان في 2018 في استبعاد العديد من الوجوه القديمة من مناصب التصقت بها منذ سنوات طويلة
بحلول نوفمبر/تشرين الثاني المقبل يكمل نبيه بري عامه الـ27 على رأس البرلمان اللبناني، في مسار رتيب لم يتمخض عن أي إنجازات تذكر، حتى بات رمزا وعنوانا للجمود السياسي ببلاده.
لم تنجح الانتخابات النيابية التي شهدها لبنان في 2018، والتي كانت الأولى منذ 2009، أو القانون الانتخابي الجديد المعتمد في 2017، في استبعاد العديد من الوجوه القديمة من مناصب التصقت بها منذ سنوات طويلة، وفي مقدمتهم بري، الرجل الذي أعيد انتخابه في 23 مايو/أيار 2018 رئيسا للبرلمان للمرة السادسة على التوالي.
لكن بقاء بري على رأس المؤسسة التشريعية لا يعود كما قد يتراءى للأذهان إلى كفاءته، وإنما لعدم تجرؤ أي شخص على منافسته والترشح للمنصب ضد ممثل "الجناح السياسي" لحزب الله، ورئيس حركة أمل الشيعية، وهذا ما منحه المجال لفرض هيمنته على البرلمان، وإملاء قراراته بما يخدم الأجندة الإيرانية، في نسق متواصل منذ عام 1992.
يقول عنه أحد المقربين منه، في تصريحات تناقلها إعلام غربي، إن بري رجل مناور بامتياز، فهو قادر على خلق مناخ عدائي، ثم القفز عليه من خارجه وكأنه لم يكن قط اليد المسمومة التي لوثته واختلقته، فيناور ويقلب المعطيات حتى يفرض معادلته الخاصة.
زعيم مليشيا
لم تكن حياة بري السياسية حافلة بالإنجازات، فالرجل البالغ من العمر 81 عاما لا يذكر له التاريخ سوى أنه كان زعيما لمليشيا أوغلت في دماء اللبنانيين والفلسطينيين، بغض النظر عن العناوين المخالفة التي يلصقها مؤيدوه برصيده الأجوف.
ولد بري عام 1938 بدولة سيراليون غرب أفريقيا، لعائلة مهاجرة من جنوب لبنان، واستطاعت جمع ثروة طائلة من خلال تجارة الماس.
تخرج في اختصاص القانون، ومنتصف ستينيات القرن الماضي تعرف على الإمام موسى الصدر، مؤسس "حركة المحرومين" في 1974 لـ"يتغير وجوده" منذ تلك اللحظة، كما قال بري في إحدى مقابلاته.
أما موسى الصدر فهو مولود في إيران لعائلة دينية من جنوب لبنان، ويقدم نفسه على أنه صاحب الفضل في تحرير الطائفة الشيعية سياسيا واجتماعيا من تهميشها من قبل نخبتها والدولة.
بعد اختفاء موسى الصدر بشكل غامض في ليبيا عام 1978، أمسك بري بزمام الذراع المسلحة لحركة "المحرومين" التي سميت "أمل"، ليحولها إلى آلة حرب قاتلة.
مليشيا مسلحة ضمت في صفوفها نحو 30 ألف مقاتل وفق خبراء، إلى جانب مقاتلي موسى الصدر في بعض القرى الشيعية، وشكلت أبرز معاول القتل والتنكيل في الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، ليظهر الوجه الحقيقي لرجل قدم نفسه يوما على أنه محام قبل أن يكتشف اللبنانيون قائد مليشيا عرف جيدا كيف يستثمر علاقاته مع شبكات تجارة الماس في سيراليون، ومن الدعم المالي والعسكري الذي وفّره له حزب الله وآخرون.
فرضت المليشيا قوانينها بقوة السلاح في جميع المناطق ذات الغالبية الشيعية في لبنان وجنوب لبنان وجزء من البقاع، مرورا بالضواحي الجنوبية لبيروت، والتي سيطر بري لفترة معينة على جزئها الغربي، وتحديدا حين جرى تقسيم العاصمة إلى جزءين، بين المسلمين في الغرب والمسيحيين شرقها.
السلاح لحزب الله والسياسة لـ"بري"
بعد وضع السلاح عمل بري على استعادة لقب "الأستاذ"، في إشارة إلى مهنته كمحامٍ، وأدرك أن خروجه رابحا من اللعبة ينبغي أن يمر عبر اصطفافه إلى جانب الأقوى، وهذا ما فعله حين تفادى انتقاد أو إثارة غضب سوريا حين وضعت يدها على لبنان، تاركا خياراته مفتوحة، في تكتيك لم يفارقه في مساره بعد ذلك.
كُلّف زعيم حركة أمل بتمثيل الشيعة على الساحة السياسية وفي البرلمان والحكومة، في حين بقي حزب الله المليشيا الوحيدة التي لم تنزع سلاحها، باسم ذات الشعارات الكاذبة من قبيل الكفاح ضد إسرائيل، والتي ستحتل الجنوب حتى عام 2000.
وبعد الانتخابات التشريعية عام 1992، والتي كانت الأولى بالبلاد منذ عام 1972، انتخب بري لرئاسة البرلمان، وهو منصب يعود آليا للطائفة الشيعية في لبنان، وفقا للنظام المذهبي فيه.
في الأثناء، تصاعدت قوة حزب الله في المناطق ذات الغالبية الشيعية، غير أن بري كان يدرك حدود قوة حركته، وعدم قدرتها على منافسة المليشيا الأولى، في المقابل وجد حزب الله في حركة بري الطعم الذي يريد، بما أن الحركة لا تشكل أي خطر عليه، ولذلك استخدمها واجهة لتعددية واهية في صفوف الطائفة الشيعية، مع أنه في الحقيقة هيمن عليها بشكل كامل.
وبهذه الصفقة غير المعلنة، قسّم الجانبان المهام بينهما، السلاح لحزب الله والسياسة لحركة أمل.
ابتزاز سياسي
يتهمه خصومه باللجوء إلى الابتزاز السياسي، وتحويل المؤسسات عن وظائفها الحقيقية لخدمته، كما يتهمونه بالاستفادة من سلطته لإنشاء نظام العميل لصالح المتعاطفين وأقارب أعضاء حركته.
أما حبه للعب دور الوساطة، فيرى محللون أن ذلك لم يكن أكثر من طريقة حتى يضمن بقاءه في قلب اللعبة، مطلعا على تفاصيلها، وهذا ما يمنحه تلك القدرة الهائلة على الإيذاء، ففي حال تعطلت مصالحه أو لم يعجبه أي أمر، تصبح الحياة السياسية في لبنان أسيرة مزاجه المتقلب، فيتسبب في شللها عبر خلق انسداد بالبرلمان أو بإصدار أوامر لأنصاره بالنزول إلى الشوارع، للانقضاض على منتقديه وتعنيفهم إن لزم الأمر وحتى تصفيتهم جسديا.
واليوم، ينفجر غضب السنوات بوجه بري، لتقفز تراكمات ومخاوف اللبنانيين من رجل لطالما أعاق كل الإصلاحات، مكرسا لنظام محاصصة يمنحه جميع الثغرات والأدوات اللازمة لخدمة أجندات خارجية تحت عنوان خدمة الطائفة وتقوية نفوذها.