المعطيات والتبدلات الناشئة على الخارطة الجيوسياسية للعالم باتت تفرض على دول حلف شمال الأطلسي مواجهة أسئلة بطابع وجودي تدور حول واقعه الراهن ومستقبله
المعطيات والتبدلات الناشئة على الخارطة الجيوسياسية للعالم باتت تفرض على دول حلف شمال الأطلسي مواجهة أسئلة بطابع وجودي تدور حول واقعه الراهن ومستقبله، ومبررات استمراره، كون تلك الدول لا تزال تنتظم بعقد الحلف منذ تأسيسه عام 1949 وحتى الآن.. عشية قمته التي تستضيفها لندن بمناسبة مرور سبعين عاما على تأسيسه، استبق بعض أعضائه هذه القمة بطروحات بعضها مشككة بحالته وصلاحيته، وبعضها معاكسة تماما أبدت تمسكاً به رغم علاّته، لكنها في الحالتين أثارت تكهنات حول تماسك هذه المؤسسة العسكرية الأطلسية، ومدى تأثير سياسات بعض دولها الأعضاء على ذلك، وما ترسمه هذه المواقف من علامات بشأن آفاق استمراره ومبرراته، علاوة على الدوافع المحرضة على إطلاق تلك المواقف.
بعض دول أوروبا -ومنها ألمانيا- لا تزال تعتقد باستحالة قدرة القارة الأوروبية على الدفاع عن نفسها بمفردها بعيدا عن المظلة الأمريكية في أي مواجهة محتملة مع روسيا أو الصين وحلفائهما في بعض مناطق العالم
ليس جديدا القول إن ثمة من يسعى من بين دوله ويعمل حتى الآن على توسيع دائرة أعضائه الحاليين خاصة لجهة دمج كل من جورجيا وأوكرانيا استكمالا لتحقيق أحد أبرز أهداف الناتو منذ إنشائه، وهو الاقتراب من حدود روسيا الحالية كونها وريثة الاتحاد السوفيتي بعد تفككه بكل مقومات وأدوات التحدي العسكرية التقليدية منها والنووية، وكذلك السياسية، إضافة إلى المنافسة في ميادين الصراع في بقاع العالم على النفوذ والمصالح .
التندر الفرنسي على لسان الرئيس ماكرون بقوله إن الناتو في حالة موت سريري حرَّك المياه الراكدة داخل بعض عواصم الناتو، منهم من زم شفتيه دهشةً من موقف باريس التي عادت إلى الناتو بعد هجرها له ثلاثة عقود منذ عام 1966، ومنهم من انتفض رافضا الطرح الفرنسي مبررا ذلك بأهمية الناتو له، كألمانيا، التي تعد أكبر اقتصاديات أوروبا.. ولكن لماذا استبق البعض من أعضاء الحلف قمته السبعين لإطلاق مواقفهم؟ هل لدى هؤلاء المشيعين للناتو بدائل تعوض حجم دوره وتغطي مساحة انتشاره؟ أم هي نزوع أوروبية لدى البعض للتقوقع على الذات؟ هل هي رسالة من بعض عواصم الحلف الغربيين لواشنطن لتأخذ بعين الاعتبار مصالحهم وتمنحهم مساحة شراكة أكبر في سياسة الحلف الخارجية واحترام نظامه الداخلي، أم محاولة لإعادة ضبط إيقاع بعض دوله للعمل ضمن مصالح مجموع أعضاء الحلف واحترام مصالح بقية الدول الأعضاء في سياساتهم تجاه التحديات التي تواجه هذا البلد أو ذاك؟ وإلى أي مدى حرضت سياسة وسلوك أردوغان في المنطقة وخارجها، وابتزازه الأوروبيين بأوراق الهجرة واللاجئين؛ باريس ومن والاها على اعتبار الناتو في حالة موت سريري؟
أسئلة لا تجد مشروعيتها التاريخية إلا في سياق تشخيص التحديات التي برزت في وجه حلف شمال الأطلسي ببعديه الكتلوي كمجموعة دول، والفردي لكل دولة من دوله، منذ انهيار حلف وارسو في يوليو 1991، حيث شكل بمجموع أعضائه من دول شرق ووسط أوروبا الشيوعية وقتذاك بقيادة الاتحاد السوفييتي السابق الطرف الوحيد الند للناتو طوال فترة الحرب الباردة بين الكتلتين.
تبرز الصين اليوم بمفردها ككتلة استثنائية من حيث مقومات وجودها البشري والعسكري والاقتصادي النقيض لحلف شمال الأطلسي أيديولوجيا، وتتسع مصالحها وارتباطها وحضورها الناعم لتتصل بغالبية اقتصاديات ومصالح العالم بقاراته الخمس، وهي بذلك تعد المنافس الأكثر قوة وتأثيرا على المسرح الدولي لمجمل اقتصاديات أوروبا والولايات المتحدة، ومع ذلك لا ترفع بكين راية التهديد بالحروب العسكرية التقليدية وغير التقليدية في وجه منافسيها باستثناء دفاعها الحاسم عن مناطق نفوذها ومصالحها، وهي تشكل محوراً سياسياً مع روسيا يترجمه الجانبان في ميادين السياسة الدولية أحياناً، لكن الخشية من تعاظم غزو الصين الاقتصادي الجامح في مراحل مقبلة للأسواق الغربية والأمريكية يمكن تلمسها في واشنطن وغيرها من عواصم الغرب.
الأمر مختلف مع روسيا، فدول حلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لا تزال تؤمن وتعمل بعقيدة التصدي للنزعة العسكرية الروسية حتى الآن وتمددها في بعض مناطق العالم، خاصة بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014، وهو ما يفسر سعيهم للتوسع والاقتراب إلى الحدائق الخلفية لروسيا كجورجيا وأوكرانيا، غير أن ذلك كله لا ينفي حقيقة أن معظم دول أوروبا بحاجة لعلاقات متوازنة مع موسكو رغم تناقض وتباين مواقف الجانبين بشأن ملفات وقضايا دولية مختلفة، والسبب الرئيسي يتمثل كما هو معروف بحاجتها للغاز الروسي، وهي قضية حاضرة في حوارات كواليس الشركاء الأطلسيين مما قد يجعلها قضية خلافية تضاف إلى قضية خلافية ناشئة حاليا داخل الأسرة الأطلسية وهي سياسة إيران والاتفاق النووي؛ إذ بدا أن الشركاء الأطلسيين منقسمون بين موقف حازم وحاسم، كالإدارة الأمريكية ضد السلوك الإيراني ونزعته التوسعية، وبين بعض الأوروبيين الذين يدورون ويتقلبون حول ذلك دون رؤية استراتيجية محددة.
بعض دول أوروبا -ومنها ألمانيا- لا تزال تعتقد باستحالة قدرة القارة الأوروبية على الدفاع عن نفسها بمفردها بعيدا عن المظلة الأمريكية في أي مواجهة محتملة مع روسيا أو الصين وحلفائهما في بعض مناطق العالم، وحين تتحدث المستشارة الألمانية ميركل عن "أهمية الناتو في خدمة مصالح أوروبا أكثر مما كان خلال حقبة الحرب الباردة" فهي تتوجس من أن بذور الحرب الباردة لا تزال قابلة للنمو.
الرغبة في معالجة المخاوف بشأن مستقبل الحلف قد تكون أبرز دوافع الأعضاء في إعلاء الصوت الناقد بعد بروز تحديات داخلية متمثلة بتنامي ظاهرة تناقض وتباين المصالح بين أعضائه، وانعكاس العداء التاريخي بين تركيا واليونان الذي يؤججه احتلال تركيا لشمال قبرص على أسرة الأطلسي، وربما يكون نهج وسياسة أردوغان المناقضة لمبادئ الناتو إحدى العلامات الفارقة، إضافة إلى موقف الرئيس الفرنسي النقدي لواقع الحلف، وكذلك التحديات الخارجية التي يواجهها الحلف ومنها دوره المنشود للمساهمة في حل بعض الأزمات العالمية من جهة، ومن جهة أخرى ضغوطات واشنطن لبحث موقفه من الصين التي تمثل قوة عسكرية متنامية، فهل ينجح حكماء الناتو في ترتيب البيت من الداخل للتحالف عبر الأطلسي؟
تلمس الإجابة يكمن في الوقوف عند عاملين ضروريين: الأول اتفاق الشركاء الأطلسيين على تحديد طبيعة العدو الماثل أمامهم، وهويته إن كانت عسكرية أم اقتصادية أم كلتيهما، وحدود خطره وأنواعه، وميادين المواجهة المقبلة وسياقاتها، والعامل الثاني استعداد الشركاء الأطلسيين لتوفير احتياجات ومستلزمات المواجهة بجميع صنوفها العسكرية والاقتصادية والسياسية، والاتفاق على الأهداف كما الأساليب.. وبعيدا عن ذلك ستبقى عجلة الحلف تدور في مضمارها السابق.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة