الغائب الأبرز عن مجريات ومخرجات قمة ليتوانيا الأطلسية كان صوت الدبلوماسية حيال النزاع الروسي الأوكراني، ومعه غاب الحديث عن أي ملامح أو توجهات غربية لوقف الحرب، أو الشروع في مفاوضات بين كييف وموسكو.
التذمر أو التململ الذي أبداه عدد من المسؤولين العسكريين والمدنيين الغربيين حيال استنزاف الحرب الأوكرانية الروسية لأجزاء واسعة من مخازن سلاحهم ومن مقدراتهم الاقتصادية، لم يحجب حقيقة التزاماتهم العسكرية والاقتصادية التي اعتمدوها في نهاية قمة الناتو لتمويل الحرب، ما يعني موافقتهم على استمرارها.
تعكس المواقف المتناقضة للمسؤولين الأوروبيين بشأن الحرب الدائرة على تخوم بلدانهم تباين تقديراتهم وتناقض أهدافهم الاستراتيجية من ناحية، وخلافاتهم مع واشنطن من ناحية أخرى التي يبدو أنها مرشحة لأن تطفو على السطح في مرحلة ليست بعيدة.
إنهاك روسيا استراتيجيا وعلى صعد مختلفة يعتبر قاسما مشتركا بينهم، باعتبارها عدوا متوثبا ضدهم جميعا، أو ضد أي دولة بمفردها وفقا لأدبياتهم وعقائدهم السياسية التي لا تزال كما يبدو تمد ذهنية الغرب الأوروبي بمداد إيديولوجي فقَدَ صلاحيته منذ تفكك الاتحاد السوفييتي قبل أربعة عقود ونيف.
اتسمت مجريات قمة فيلينوس ونتائجها بكثير من الاستثناءات عن ما سبقها من قمم، حيث كرست وحدة الحلف، وشهدت مرونة ًتركية لتسهيل انضمام السويد إلى صفوف الحلف في المستقبل القريب بعد أن تم مداعبة رغبات أنقرة بشأن إحياء ملف انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي مجددا باهتمام أكبر من السابق، ولا يُستثنى اللقاء التركي اليوناني على هامشها كمَعْلم هام أيضا.
زيادة مخصصات الميزانيات العسكرية لدول الناتو كافة هي الرسالة الأكثر بلاغة حول الاستعداد الغربي للمضي بعيدا في إسناد الحرب وتغذيتها، رسالةٌ إلى الجانب الروسي تشي بثبات الغرب على المنازلة والمثابرة على توفير مستلزماتها وأدواتها واحتياجاتها.
تتقدم واشنطن ركب الأوروبيين وتقودهم لمسارين مفتوحين على المجهول حتى الآن كما تجلى ذلك واضحا في القمة، أولهما ترقية الدعم لأوكرانيا بصنوف أسلحة أكثر تأثيراً، معنويا وميدانيا، كالقنابل العنقودية، بغية إمداد الهجوم الأوكراني المضاد بمزيد من المعنويات بعد أن تعثر، أو أخفق في تحقيق أهدافه المعلنة أو المرجوة حتى الآن، مما فرض على الغرب الاستجابة للرغبة الأمريكية، وثاني المسارين يتمثل بقطع الطريق على أي جهود أو تحركات دبلوماسية غربية، فردية أو مشتركة نحو موسكو تهدف لتلمس خطوط حوار معها ويمكن أن تسهم بطريقة ما بإنتاج مقاربات صالحة للبناء عليها وتدشين مرحلة مفاوضات أولية تضع حدا للصراع بصيغة متوازنة تلبي رغبات الجانبين وتحفظ مصالح كل منهما.
السجال في ميادين القتال بين روسيا وأوكرانيا بات أقرب إلى المناوشات العنيفة بعيدة المدى لكنها ضمن مساحات على الأرض الأوكرانية فقط، سواء في عمق أراضيها، أو ضمن ساحات القتال في الأقاليم الواقعة تحت سيطرة القوات الروسية بنسبة كبيرة والتي ضمتها روسيا بداية الحرب، باستثناء استهدافات أوكرانية لأهداف في بعض مياه روسيا أو بعض مدنها لا تأثير لها البتة على سير العمليات القتالية أو إحداث تحولات هامة على مجريات الحرب.
أمام هذا المشهد القائم لم يتبق أمام الجانب الأوكراني سوى الاستمرار بالقتال بهذه الطريقة، وهذا السبيل يرتب أعباء وخسائر بشرية واستنزافا متناميا لها ولداعميها الأطلسيين الذين لن يجدوا مخرجا من هذا النفق، لأن تطورات الصراع عسكريا وإدامته، تفرض على الغرب وعلى واشنطن قبول الأمر الواقع والرضوخ لمتطلبات كييف والاستمرار بإمدادها بما تحتاجه عسكريا واقتصاديا ولوجستيا طالما أن الحسم العسكري على حساب روسيا ليس في متناول اليد، بل هو أقرب إلى الاستحالة بسبب موازين القوى القائمة والردع المتبادل من جهة، وبسبب أساليب إدارة الصراع من قبل الجانبين الروسي والأمريكي من جهة أخرى.
السجال العسكري دون حدوث خرق جوهري على الجبهات أو في العمق لصالح أي قوة، يترافق مع ارتفاع مؤشر المخاطر المحتملة جراء غياب القدرة على الحسم العسكري، وإهمال السياق السياسي والدبلوماسي كخيار موازٍ لدرء أي تداعيات قد تنجم عن تطورات ميدانية غير محسوبة.
السؤال المعلق بلا إجابة هو؛ مَنْ سيمسك بلجام النهايات ويقودها نحو شاطئ السلام؟.. العجز عن بلوغ أهداف الصراع من قبل الأطراف كافة يشكل خطرا داهما، لكن الأكثر خطورة يكمن في الإحساس بالعجز لدى طرف دون غيره ، مما قد يدفعه إلى التهور الذي يخشاه العالم أجمع.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة