إجراء انتخابات جديدة في العراق حلٌّ بعدما عزّت الحلول. ولكن مَنْ وما الذي يمكنه أن يضمن التغيير أو حتى القبول بالنتائج؟
بعد كل فضيحة الفساد التي بددت، بحسب المعترف به، أكثر من 400 مليار دولار من عائدات العراق النفطية على مدار 19 سنة ماضية، وبعد كل فضيحة الفشل التي وضعت البلاد على حافَة الإفلاس، والعجز عن توفير الخدمات الأساسية، والانهيار الأمني، بل وبعد انتفاضة دامت عاما ونيف، سقط خلالها مئات القتلى وعشرات الآلاف من الجرحى، فقد عادت أحزاب الولاء لإيران والمليشيات التابعة للحرس الثوري الإيراني لتحتل ما شكّل "الثلث المعطل" في البرلمان، الذي انتُخب في أكتوبر الماضي، أي نحو 110 مقاعد من مجموع 329 مقعدًا.
هذا العدد نفسه كثير بحد ذاته قبالة تلك الحقائق.
وبرغم كل فضائح الانهيار والفساد والفشل، فإنها لم تمنع هذه الأطراف من الاحتجاج على النتائج واعتبارها "مزوّرة"، وطلب إعادة العد، وكأن الملايين التي كانت تتظاهر ضدها، وتحرق مقراتها، وتهتف بالمطالبة بإبعاد إيران عن العراق، كانت من كوكب آخر.
ومثلما تعمدت هذه الأطراف منع "التيار الصدري" من تشكيل حكومة "أغلبية وطنية"، وسارعت إلى احتلال مقاعده بعد انسحاب نوابه من البرلمان، فقد انتهى "التيار" إلى أن تعمّد إسقاط محاولاتها لتشكيل حكومة، بوقف جلسات البرلمان.
ما يبدو الآن صراعًا داخل الطائفة الشيعية ليس سوى جزء من أصل المشكلة، وهي النظام الطائفي نفسه، القائم على أسس المحاصصة، والقائم بدوره على دستورٍ جعل من العراق كيانًا ممزقًا، من ثلاثة أقاليم، يدعى فيدراليا، ولكنه يمنح الأكراد ما لا يمنحه للسنة، ويعطي السلطة التنفيذية للشيعة ما يحرم الأكراد والسنة من المساواة في الحقوق والامتيازات، ويكرس مبدأ تقاسم الحصص في الوزارات، بما حوّل الدولة ومواردها إلى غنائم يجري السطو عليها لأغراض لا علاقة لها بالمصالح الوطنية. و"الوطنية" نفسها -بعيدا عن الزيف الكلامي- لم تعد جزءا من القاموس الفعلي لنظام أصبح الفساد جزءا من طبيعته.
ولقد كان من الطبيعي لهذا النظام أن ينتهي إلى الفشل. والشيء المنطقي هو أن الذين قادوا البلاد إلى الهاوية كان يتعين أن ينسحبوا إلى الظل، إنْ لم يخرجوا من المعادلة كليا، وأن يُعاد بناء النظام السياسي ومؤسساته على أسس جديدة.
العائق الراهن أمام هذه النتيجة المنطقية هو أن هناك غاياتٍ انتهازيةً طرأت بما طرأ على خزائن البلاد من عائدات النفط. هذا هو ما أعاد تشكيل الإغراء لجماعات الولاء لإيران بتجديد السعي إلى السلطة. فالاعتقاد، المُضمَر، يقول إنها تستطيع تحسين صورتها بتوفير بعض الخدمات، مع المحافظة على مستويات النهب السابقة، فتضرب عصفورين بحجر.
هذا هو السبب الذي سوّل لـ"الثلث المعطل" أن يسعى إلى تشكيل حكومة، ظنا من أطرافه أن المشكلة هي مشكلة أموال، يجري "إعادة تنظيم" نهبها، وليست مشكلة نظام، جنى نحو تريليوني دولار خلال عقدين، وظل فاشلا.
التغيير مطلوب. والدعوة إلى إجراء انتخابات يمكن أن تشكّل مدخلا صحيحا له. ولكن لا توجد ضمانات تكفي لتحقيقه.
الاتهامات بالتزوير وعدم الاعتراف بالنتائج يمكن أن تتجدد. وما حال دون اندلاع مواجهات مسلحة بين الأطراف المتنافسة قد يصبح واقعا إذا ما تراجعت حصص الجماعات الموالية لإيران. أو إذا ما بدا أنها لم تعد تحظى بالنفوذ الكافي لكي تفرض إرادتها داخل السلطة وخارجها.
المعركة، التي تتطلب إلغاء نظام المحاصصة الطائفية سوف تتطلب تغييرا للدستور، وتغييرا لطبيعة النظام البرلماني الراهن، لصالح نظام رئاسي، وتغييرا في طبيعة عمل مؤسسات الدولة وإداراتها ووظائفها والرقابة عليها.
وهذه معركة لا تقتصر مفاعيلها والأطراف التي تخوض غمارها على المنافسة بين جماعات داخل الطائفة الشيعية، ولكنها تشمل كل الأطراف الأخرى، ما قد يؤدي إلى إثارة نزاعات أوسع نطاقا.
الذين تسلحوا وأثروا وارتبطوا بأجندات خارجية، ليس من المنتظر أن يستسلموا لأي نتائج انتخابية. وما لم يتوفر إطار وطني يجتمع على رؤية معتدلة للتغيير، فإن المزيد من الفوضى هي ما قد يكون الوريث الفعلي.
التغيير نفسه يمكن أن يأتي كانقلاب جذري وشامل، أو كتغيير تدريجي، توضع له بدايات ونهايات ومسارات تنفيذية واضحة. والمسألة هنا إنما تتعلق بما يمكن الدفاع عنه والحفاظ عليه، وليس بالضرورة كل ما هو مرغوب فيه.
آخر ما قد يحتاج إليه دعاة التغيير هو أن يخوضوا غماره تحت وطأة الفكرة القائلة: "كل شيء، أو لا شيء"، أو "إذا متُّ ظمآنا، فلا نزل القَطْر". فهذا من طبع الغرام، ولكنه ليس من طبع السياسة.
الانتخابات ضرورة يمليها التعطيل القائم. لا يوجد حل أفضل منها في حدود نهايات المأزق. إلا أن جذور المأزق، وسيقانه وفروعه، تستوجب توافقات مسبقة على مسار واضح للتغيير، بحيث تتوفر له الحصانة والسند اللازمان، من قبل أن يتقدم كقوة قاهرة، تُجبر الآخرين على الاستسلام لحقائقها، وتمنعهم من حمل السلاح ضدها، أو معاندتها بنشر الفوضى.
التغيير واجب. ولكن تحصينه أوجب.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة