نتنياهو اعتبر خطة ترامب للسلام بمثابة وثيقة اعتراف عالمية بإسرائيل الجديدة. وقال إن مضمونها وضع محددات وتجليات علاقة بلاده مع جيرانها
الحقيقة الوحيدة التي قيلت في المؤتمر الخاص بإعلان ما يسمى بـ "صفقة القرن" أو الخطة الأمريكية للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين هي ما جاء على لسان رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، عندما قال إن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هو أفضل صديق لبلاده سكن البيت الأبيض على طول تاريخ الولايات المتحدة، كيف لا!؟ وترامب قد منح إسرائيل بعد سبعين عاماً على تأسيسها حدوداً جديدةً تتجاوز ما رسمته لها القرارات والمرجعيات الدولية، دون حتى أن تدفع تل أبيب دولارً واحداً تعويضاً، أو تخسر جندياً واحداً في معركة مع جوارها العربي.
ربما يطمح عباس لنيل جائزة نوبل للسلام أو ربما يريد أن يتحول إلى رمز للكفاح السلمي مثل المهاتما غاندي، هي أحلام مشروعة لقادة في مثل سنه، ولكن يجب عليه أن يتنبه لخطورة الرهان على الوقت في "كفاحه" السلمي مع الاحتلال.
نتنياهو اعتبر خطة ترامب للسلام بمثابة وثيقة اعتراف عالمية بإسرائيل الجديدة. وقال إن مضمونها وضع محددات وتجليات علاقة بلاده مع جيرانها الفلسطينيين والعرب. لا يهم إن رفض الجوار الصفقة والتفاوض مع تل أبيب. المهم أن بقية العالم لن يعارض إسرائيل الجديدة إلا في حدود الخطب والتصريحات الصحفية. لن تكون هناك قرارات أممية ضدها، ولن تحاربها أي دولة تريد علاقات سياسية وعسكرية واقتصادية جيدة بينها وبين الولايات المتحدة.
الواقع يقول إن دول العالم تقف أمام خيارين يتيمين في التعامل مع "صفقة القرن"، تأييدها أو تجاهلها. والتجاهل هو في حد ذاته تأييد مؤجل المفعول لأن مكتسبات الفلسطينيين على أرض الواقع تتآكل مع الزمن. ما عرضه الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون على الرئيس الراحل ياسر عرفات في مفاوضات كامب ديفيد عام 2000، لا يقارب ما جاء به ترامب اليوم في حدوده الدنيا. لم يفعل العالم شيئاً تجاه القضم الإسرائيلي لحقوق الفلسطينيين منذ اتفاق أوسلو عام 1993 وإلى اليوم. ولن يفاجئنا المجتمع الدولي برد فعل مختلف على إعلان "صفقة القرن".
بالنسبة لتأييد صفقة القرن فهو يحمل أشكالا عدة، من بينها بدء التعامل مع إسرائيل الجديدة وكأنها أمر واقع، تماماً كما فعلت بعض الدول عندما نقلت سفاراتها إلى القدس بعد الاعتراف الأمريكي بالمدينة عاصمة لإسرائيل عام 2017. هناك أيضاً تأييد يأتي عبر تشجيع الفلسطينيين على القبول بالصفقة، وتأييد آخر من خلال إعلان الجاهزية لدعم الصفقة مادياً في حال قبول الفلسطينيين بها. المحصلة أن لا أحد يمانع هذه الصفقة من حيث المبدأ، وإنما الجميع ينتظر موافقة الفلسطينيين التي يبدو أنها لن تأتي اليوم، كما لم تأت في مفاوضات عام 2000.
ثمة نوع من الرفض لـ"صفقة القرن" تمارسه منظمة الأمم المتحدة، لا يسمن ولا يغني من جوع. فهي تتمسك بحل الدولتين على حدود 1967 ولا تفعل شيئاً من أجل تطبيقه. لا تستطيع إجبار مائة وثلاث وتسعين دولة عضوا فيها على الاعتراف بفلسطين، ولا يستطيع مجلس الأمن التابع لها أن يمنع تنفيذ خارطة ترامب من طرف الإسرائيليين وحدهم، طالما أن أمريكا تمتلك فيه حق النقض "الفيتو". وبالتالي أقصى ما يمكن للمنظمة الأممية فعله هو منح فلسطين صفة مراقب، وضمها لعضوية المنظمات المنبثقة عنها، إن لم تعارض واشنطن طبعاً.
بالنسبة للأوروبيين فهم لم يرفضوا "صفقة ترامب" كلاً وتفصيلاً. بل على العكس كانوا مرنين جداً تجاهها. لا يبدو ذلك مستغربا لأنهم لطالما حرصوا على أحسن العلاقات مع إسرائيل والولايات المتحدة بالدرجة الأولى. أما الفلسطينيون فكانوا كلما يطالبون بالاعتراف بدولتهم يقولون لهم، اذهبوا وفاوضوا الإسرائيليين. ليكون سقف الدعم المقدم من بروكسل على مدار عقود هو المساعدة في مقاطعة تعليمية واقتصادية جزئية لإسرائيل، وتقديم الدعم المالي لمنظمة الأونروا، وإظهار تأييد خجول، أو لنقل حذرٍ لقضايا حقوق الإنسان التي يرفعها الفلسطينيون ضد العنصرية الإسرائيلية التي تمارس بحقهم في الأراضي المحتلة.
لا تستطيع الدول المؤيدة للفلسطينيين أن تفعل الكثير، أو بتعبير آخر، أن تفعل ما يمكن أن يشكل دعماً حقيقياً يشكل تهديداً على مستقبل إسرائيل وحدود دولتها. وعلى الرغم من أن ذلك يبدو جليا للقاصي والداني منذ سنوات طويلة، فإن الرئيس الفلسطيني محمود عباس يرى في الدعم الدولي والأوروبي المحدود السبيل الوحيد لاسترداد الحقوق الفلسطينية المغتصبة. لا يهم كيف يكون ذلك، ولا يهم أيضاً كم يستغرق ذلك من الوقت. المهم برأيه أن يبقى الكفاح سلمياً، وأن يؤكد الفلسطينيون للعالم كل يوم بأنهم ليسوا إرهابيين ولا يبحثون عن الحرب.
في خطاب رده على "صفقة القرن" الأمريكية، يستبشر عباس خيراً بصحوة في ضمير العالم تجاه حقوق الفلسطينيين، ويراهن على أن هذه الصحوة التي بدأت تظهر اليوم، على حد تعبيره، ستعيد للفلسطينيين حقوقهم يوماً ما. لا ضير أن يكون العالم قد استهلك عقودا ليبلغ هذه الصحوة، ولا ضير أيضاً من أن تكون خارطة فلسطين قد تقلصت بمقدار النصف خلال هذه العقود التي كان فيها ضمير العالم نائماً. المهم أن يبقى عباس رئيساً للسلطة الفلسطينية، ويبقى تنسيقه الأمني مع إسرائيل المحتلة قائما لحماية المستوطنين من "جرائم الطعن" الفلسطينية.
أوغل عباس في سلميته كثيراً. ولا عجب أن تصدر كل هذه "السلمية" من الرجل الذي بكى الرئيس الإسرائيلي السابق شمعون بيريز خلال تشييعه. ربما يطمح عباس لنيل جائزة نوبل للسلام، أو ربما يريد أن يتحول إلى رمز للكفاح السلمي مثل المهاتما غاندي. هي أحلام مشروعة لقادة في مثل سنه، ولكن يجب عليه أن يتنبه لخطورة الرهان على الوقت في "كفاحه" السلمي مع الاحتلال. فإن لم يجد له صديقاً يقف إلى جانبه ويدعمه مثلما يفعل ترامب لإسرائيل اليوم، فإن الخارطة الأمريكية القادمة للمنطقة بعد عشرين عاماً لن يظهر عليها العلم الفلسطيني.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة