أشار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في كلمة له قبل أسابيع، أمام اتحاد نقابات رجال الأعمال الأتراك، إلى أول مؤشرات التغيير في سياسة تركيا الخارجية بقوله إن هدف أنقرة في المرحلة المقبلة هو إنشاء حزام من الأمن والسلام في الإقليم.
لا أحد يتحدث في تركيا عن انطلاقة مئوية جديدة دون جهود حقيقية تبذل لمعالجة الكثير من المشاكل والأزمات التي تنتظر الحلول في الداخل والخارج. فريق العمل الجديد الذي اختاره أردوغان ليتولى زمام الأمور في السنوات الخمس المقبلة يعكس هذا الواقع.
تبدلت أولويات أنقرة في الآونة الأخيرة داخل العديد من الدوائر والمربعات الجيوسياسية التي لها مصالح فيها أو معها. الوجود التركي وصل إلى العمق الأفريقي وإلى منطقة القوقاز والجانب الشرقي من حوض البحر الأسود. أخذت تركيا ما أرادته حيناً لكنها فشلت في الوصول إلى تحقيق أهدافها أحياناً أخرى.
متغيرات المعادلات الإقليمية دفعتها للتسليم بحقيقة أن طرح "العزلة الثمينة" لم يقدم الكثير، وأن بناء حزام من الأمن والسلم لا يتعلق بما تقوله وتريده بمفردها. هناك العديد من اللاعبين المؤثرين في صناعة التوازنات الاقتصادية والسياسية والأمنية من الواجب الإصغاء إلى ما يقولون ويريدون أيضا.
من هنا تستعد أنقرة لإطلاق استراتيجية إقليمية جديدة على ضوء هذه المتغيرات والتوازنات الحاصلة، وتقوم على قاعدة أن تركيا ستكون قوية بالآخرين وليس من خلال الدخول في مواجهات معهم كما حدث في الأعوام الأخيرة. معادلة سيتم اختبارها على ضوء سياسة الانفتاح والتهدئة الإقليمية التي تبنتها قيادات العدالة والتنمية في العامين الأخيرين.
شهدت مراسم أداء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان اليمين الدستورية لولاية رئاسية جديدة في مطلع يونيو/حزيران الحالي، حضوراً عربياً كبيراً قابله انخفاض في مستوى المشاركة والتمثيل من الجانب الغربي.
بقدر ما استوقفنا الحضور الإقليمي والتمثيل الرفيع العربي والأفريقي والآسيوي، استوقفنا أيضاً مستوى التمثيل الأمريكي والأوروبي المتدني في حدث سياسي ودستوري مهم من هذا النوع داخل دولة أطلسية كبيرة وشريك فاعل للمجموعة الأوروبية. ما دلالات ذلك بالنسبة لأنقرة وكيف ستترجم عملياً في الأشهر المقبلة على صعيد العلاقات التركية مع الجانبين، وهل ستعرقل استراتيجية التحرك التركي الإقليمي الجديد؟ وهل ستنجح حكومة أردوغان المعلنة قبل أسبوعين في مواصلة سياسة التطبيع وتصفير المشاكل التي يقول الرئيس التركي إنها انطلقت عبر تحريك القنوات السياسية والدبلوماسية بفاعلية أكبر على طريق تسوية الخلافات وتحسين العلاقات مع العواصم الإقليمية؟
قناعة أنقرة التي بدأت تظهر إلى العلن أن المصالح المشتركة أكبر وأهم بكثير من التباعد والخلافات، هي أيضاً بين الأولويات بالنسبة لأردوغان وفريق عمله الرباعي مع هاقان فيدان وزير الخارجية وإبراهيم كالين رئيس جهاز الاستخبارات ويشار غولار وزير الدفاع ومحمد شيمشك وزير المالية الجديد .
ظروف وأجواء اليوم استوجبت اختيار فريق عمل وزاري مغاير يأخذ بعين الاعتبار متطلبات المرحلة المقبلة. حكومة تهدئة وانفتاح إقليمي أوسع على الخارج من قبل الذين اتخذوا أصعب القرارات في رسم معالم سياسة تركيا الخارجية في السنوات الخمس الأخيرة بكل ما تضمنته من خطوات تشدد وحزم وتصعيد مع العديد من العواصم.
فلا غرابة إذا عندما تستعرض الكثير من التحليلات والكتابات التركية المزيد من الانفتاح والتقارب التركي العربي بما يسهم في تعزيز العلاقات والانتقال بها إلى مرحلة تنسيق سياسي وأمني واقتصادي أوسع. وليس سرا أن ما يقوم به أردوغان هدفه تسريع الحلحلة في ملفات إقليمية معقدة تعني تركيا ومصالحها في الخارج عن قرب. ولن نفاجأ حين نرى المزيد من الحراك باتجاه الاقتصاد قبل السياسة بدعم وتنسيق مع الخارجية والاستخبارات أيضا، لتكون الأولوية لإخراج البلاد من أزماتها المالية والاقتصادية. وأن يكون تحقيق ذلك يتطلب تفعيل الحوار مع العديد من العواصم العربية والغربية إلى جانب محاولة إبقاء الأمور على ما هي عليه من تقارب مع موسكو وتل أبيب وطهران.
من هنا تأتي خطط تسريع التواصل مع مصر والسعودية والإمارات. ومن هنا أيضا تبرز الرغبة التركية في رفع مستوى العلاقات السياسية والاقتصادية ونقلها إلى مستوى التقارب والانفتاح على موسكو في الشرق الأوسط والقوقاز وحوض البحر الأسود.
بقدر ما تعتبر أنقرة مصر بوابة أفريقيا، ترى في الرياض وأبوظبي فرص عبور استراتيجي أساسي لمصالحها في الخليج. مشروع "طريق التنمية" في تعزيز الشراكة والترابط بين تركيا والعراق مثلا، سيحظى بأولوية فتح صفحة جديدة من العلاقات بين أنقرة وبغداد، مرتبطة بتفاهمات مائية وأمنية ونفطية ثنائية وإقليمية.
التغييرات قريبة المدى في مواقف وقرارات أنقرة المرتبطة بخروجها من أزماتها الاقتصادية هي التي ترسم معالم سياستها الخارجية الجديدة لحماية مسار خططها الاستراتيجية على المدى البعيد.
في سوريا مثلا قد لا تكون أولويات تركيا جدولة الانسحابات العسكرية من الشمال السوري كما تريد دمشق كشرط مسبق لأي حوار وتفاهمات. وقد تتمسك أنقرة قبل ذلك بتفعيل مسار عودة مئات الآلاف من السوريين إلى بلادهم في إطار خطة متفق عليها بشقها السياسي والمادي والاجتماعي تناقش أمام الطاولة الرباعية الجديدة في موسكو. لكنها ستأخذ بعين الاعتبار المسار العربي والإقليمي الجديد في التعامل مع ملف الأزمة السورية، وإنجاز اختراق حقيقي على جبهة شرق الفرات وسياسة واشنطن التي تقلقها هناك.
يود أردوغان مواصلة تعزيز علاقاته مع روسيا، دون قطيعة تركية غربية. فهل ينجح في ذلك إلى ما لا نهاية؟
سيحاول الرئيس التركي وفريق عمله الوزاري الجديد مواصلة الاستفادة من لعبة التوازنات الحساسة والاستثنائية التي منحت أنقرة فرصة تنويع سياستها الخارجية وتحسين علاقاتها مع الشرق لسد النقص في سياستها الغربية ودون المساس بأهداف الاندماج المعلنة منذ عقود باتجاه أوروبا وأمريكا.
التوتر الحالي مع واشنطن قد لا يعني بالضرورة أن أنقرة ستبتعد عن تحالفاتها مع أمريكا تحت سقف الأطلسي ومظلة المجلس الأوروبي ووجودها أمام طاولة الدول العشرين الأقوى اقتصادياً في العالم.
لكن إدارة بايدن تنتظر من تركيا أن تبادر هي أولا بخطوة التراجع إلى الوراء في مواقفها المتشددة والمتصلبة حيالها. أردوغان يعرف جيداً أن واشنطن لن تقبل أن تقترب أنقرة أكثر فأكثر من موسكو وبكين وطهران. لكنه يعرف أيضاً أن إدارة بايدن حتى ولو أقدمت هي على الخطوة الأولى نحوه فلن يعني ذلك التراجع عن تمسكها برفض المزيد من التنسيق التركي الروسي، وضرورة فتح تركيا الباب أمام عضوية السويد الأطلسية في قمة ليتوانيا الشهر المقبل .
مقايضات وصفقات صعبة تنتظر فريق عمل أردوغان على أبواب المئوية الجديدة. مركز الثقل فيها سيكون البحث عن حلحلة سريعة في ملف الأزمات الاقتصادية والمالية التي ستكون المحدد الأول في علاقات وخيارات تركيا السياسية والأمنية مع الخارج في الأعوام المقبلة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة