تتداخل الأولويات في كثير من الأحيان عند الحديث عن الحاجات الملحة في المجتمعات الإنسانية، سيما أن التداعيات الحاصلة لا تنحصر ولا تنحسر على جانب دون الآخر، الأمر الذي يُبرز صبغتها الدينية، ويتمحور حولها بحلة أقرب ما تكون لـ"المركزية".
ويرجع ذلك الاتجاه إلى الدور الوظيفي الذي تقوم به المؤسسات الدينية في المجتمعات، وبخاصة أنها تكاد تكون الجهة الوحيدة التي يمتد شأنها لمجالات أخرى تحتاج إلى إسناد أو إثراء في أحد جوانبها التي تجيء بالأساس من أحد المنابع الرئيسة، فهي تتكئ على الاتجاه الحتمي نحو اتباع قدوة، نراها لدى السنّة من خلال جعل الاجتهاد دائم التدحرج، ولدى الشيعة بانتهاج خطى الأئمة الإثنى عشر، ولدى إخواننا المسيحيين بالبابوية.
ومن المعلوم الملامس للواقع، والصادر عن أحد تقارير اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا "الإسكوا" أن المؤسسات بشكل عام، تنشأ وتسعى للتطور والتطوير بغية خدمة الإنسان وخدمة قضاياه وشؤونه، وبخاصة أنها تتحلى بطابع يلائم حالته الطبيعية من حيث نشأته ونموه وتطوره.
والمؤسسات الدينية بشكل خاص، باعتبارها المرآة التي تعكس صورة الدين كمنظومة حضارية تحاكي الماضي والحاضر والمستقبل، لا بد أن تتسع في دورها ورؤيتها وأهدافها استجابةً للمطالب الإنسانية.
على المؤسسات الدينية أن تعكس المجتمع المحيط بها، بنسائه ورجاله، وأن تتواءم مع العلم الدنيوي، وأن تتطلع في خدماتها إلى عين العصر المنفتحة على آفاق الزمان والمكان، ما يضمن ديمومتها دون فقدان دورها المحوري، وإلا صارت دميةً تحرِّكها خيوط القائمين على أمرها.
ومن زاوية قريبة الوصال لوجدان الإنسان، فإن الدور الوظيفي للدين في المجتمعات، والذي تمثله المؤسسات ذات الشأن، يتأثر كثيراً بالأزمات المرتبطة بالهوية الدينية، وماهية ملامحها التي تحتضن بين كفيها فيصل المقدس وغيره، وتضاريس الخطاب الديني، وغيره من الارتباطات المؤثرة والمتأثرة القوية، فضلاً عما يؤثر في صيغة الخطاب الديني نفسه، وكينونة اتجاهاته من خلال الإدارة المتقلدة للمؤسسات الدينية، والتي أثرت على امتداد التاريخ في الكثير من المظاهر السلوكية المجتمعية تبعاً لمرجعيتها.
وهذا الأمر لم يتوقف هنا، إذ يرتبط الدور العقدي المنعكس بظلاله على أرض الواقع، على كم التغيرات الحثيثة والتحولات المتسارعة، وبخاصة أن سبل ووسائل التواصل والتقريب لم تدع أي فرضية للبعد المكاني أو الزماني أو حتى الفكري.
وعليه، فلا بد من التساؤل عن إمكانية نجاح "الحقيبة الدينية"، ذات الصوت الأخلاقي القيمي، في معترك تطورات هائجة، تتسارع دون أي قيود.
فالتحدي القائم بين خطاب الدين ومعطيات التطور، يفرض العديد من الجديد في مقاييس اعتبار نجاعة دور المؤسسة الدينية، وقدرتها على إيصال خطابها بما يتواءم والأساليب التقنية ونوافذ المستقبل التي تُفتح من الآن على عَجَل.
وهو بحد ذاته سياق يؤدي لمواجهة إكراهات ظروف وتراكمات عديدة، بما في ذلك الاتجاهات الفكرية النازعة للجمود والتحجر المتمثل في الخضوع "غير المتزن" للموروثات الثقافية، الفكرية والمجتمعية، رغم أنها عكس صيرورة الرسالة السماوية القاصدة لتحقيق سكينة الإنسان وتعميم استقراره كحال أبعد من أن يكون "مؤقتاً".
إن مأسسة المجال الديني تحتاج بشدة إلى الدفع والرفع من مستواها الذي يصب نتاجه في التأثير الحقيقي على المجتمعات التي باتت تتجه بعد كل وعكاتها وخيباتها للانتصار للقيم الإنسانية المشتركة، بعيداً عن الطرق البديلة "المؤقتة"، فالإنسان اجتماعي بالطبع وغلاب الميل لطمأنينته الدنيوية التي تعتبر إيمانياته وروحانياته إحدى أهم وسائل تحقيقها.
ومن ذلك، فإن حتمية اعتلاء صهوة الحداثة، والاتجاه نحو التغيير العصري، لا تنفك تلاحق المجتمعات الساعية للتطور، إذ تعاني العديد من المؤسسات أو الجهات الدينية من فقدانها إحدى حلقاتها التي تصير من خلالها مكتملةَ الحلقات، وبخاصة أنها تمر من خلال أرض وعرة مليئة بالتحديات، وبانهيارات "حالات الطوارئ"، الأمر الذي يدعو لضرورة تركيز الوسائل والأدوات كافة لصالح إحداث "بُحبوحة" إيمانية علمية رصينة، تلقي بانعكاساتها "الحانية" على الأجيال، متخليةً عن قلادة "التكفير" و"التهجير" من قلب الدائرة الإيمانية، ومرحِّبةً بالأنماط والأدوار الدافعة ببناء الإنسان كافة، دون التخلي عن إنسانيته.. وهذا هو دور المؤسسات الدينية بحق، وجوهر أثرها المرتجى.
نقلا عن الاتحاد الإماراتية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة