تحيط العديد من الإيضاحات حول المجالات كافةً، ما دام وجودها يبدو ظاهراً وذا أثر على سطح المجرة، إذ لا ينفك الإنسان يعيد ويزيد في محاولاته للوصول إلى أقصى فهم ممكن لكل منها.
سيما أن لارتباطها نتاجات، إما هي دافعة بصيرورة البشرية، وصناعة حضارتها، وتقدمها، أو هي إنذارات تحيد به عما لا ينسجم ورسالته "المتوقع" تأديتها على هذه الأرض.
وفي السياق ذاته، يجيء الحديث عن "الدين"، الذي يمثل طاقة روحية إيمانية عظيمة الانعكاسات على تابعيها، إذ هي أشبه بـ"دستور حياة"، و"بوصلة سلوك"، و"وسيلة تقدم".
وحيث إن ذلك لا يكون دون فهم عميق ومكثف لذلك الدين، وقياس مدى صلته بالوجود الإنساني، تتركز العناية لشرح تضاريسه وتفكيك خطاباته، وهو ما تعنيه الفلسفة المرتبطة بالدين.
وإن فلسفة الدين، كما يراها بعض أهلها، لا تمت بصلة لما يهيئ للوهلة الأولى من وظائف متعلقة بها من تحقيق وظائف إرشادية، ووعظية، ودعوية، أو حتى الإسهام في تحقيق وظائف ومهام الدين ذاته، بل إن "فلسفة الدين"، هي عملية تعميق لفهم الدين وما يحمل من دلالات، وإيضاحات للاعتقاد الديني في سياق الوجود الإنساني، ومن خلال نقاش فلسفي نقدي عقلاني.
وفي تقريب الصورة أكثر لطبيعة الفلسفة المتعلقة بجسد الدين، فإنها تمتاز عن غيرها من الجهود والمحاولات التي تقترب من الإنصات والتفاهم للدين ومتعلقاته، سيما أنها تتبنى الحياد والموضوعية في تعريفها لمعنى الإيمانيات، وإبراز حدود الدين، أو حتى معنى اسم الرب، وذلك كله بطريقة أقرب ما تكون "نقية" من شوائب الاتجاهات اللاهوتية، أو التعثر في عبء التاريخ، أو ثقل المكنونات المستقاة من المجتمعات، والمترسخة في حقيبة "العادة والتقليد"، فالجدير بالاهتمام في فلسفة الدين هو إعمال الوسائل العقلية، لتفسير الأسس الدينية واتصالها أو انفصالها عن الطبيعة وما يقبع وراءها.
يقول هيجل: "لقد بدا لي أن من الضروري أن أجعل الدين بذاته موضوع النظر الفلسفي، وأن أضيف إلى هذا دراسته في شكل جزء خاص للتفلسف ككل".
وبذلك فإن إدخال ورقة الدين على طاولة النقاش الفلسفي، يعني إتاحة المجال للعقل الإنساني للتفكير العميق والممحص لمكنونات الدين، دون اشتراطات متعلقة بماهية قناعاته واتجاهاته، فهي متاحة للمؤمن والملحد على حد سواء، وهذا لربما إعمال حقيقي للأمر الرباني الداعي للتفكر.
وفي النظر لمصطلح "فلسفة الدين" بذاته، الذي لم يمثل بشكل أقرب للصحة قبل بواكير القرن التاسع عشر مع إنتاج أطروحة فلسفة الدين، فقد شكل قفزة نوعية في سياقات النظرة للدين التي كانت قاب قوسين أو أدني، مكثفةً إما في الإسهاب الإيماني، أو التوجه اللاهوتي، وبخاصة أن ذلك التتبع التاريخي "الفلسفي الديني" يبرهن المواقف الصريحة والمباشرة لتلك الفلسفات، سواء لدى اليونان، أو في الفلسفة الإسلامية، أو المسيحية، أو اليهودية.
لتتخذ مساراً "أكثر ميلاً" للعقلانية في تناول الظواهر الدينية، وماهية المقدسات، والانعكاسات الحقيقية للدين على حياة الفرد ومكوناته من جسد وروح ونفس، وبالتالي تأثيراته في المجتمعات البشرية كما أن توجه الإنسان نحو فهم الدين، واستيعاب رسالته من خلال قالب فلسفي، لم ترد بذخاً أو تنطعاً، بل سبقتها العديد من الإرهاصات والدوافع الحقيقية التي لمست واقع الإنسان، وجاءت بسياق متصل متناغم معه، ففي حين ذهب البعض لتأويل هذا الظهور الفلسفي الديني، على اعتبار أنه خلاصة جهود "المتألهين المحدثين"، بغية عصرنة الأفكار بشكل عام والحياة الدينية بشكل خاص، مما دفع بظهور ثورة تجديدية "إلهية مسيحية".
كما يقترب الترجيح الثاني لذلك الظهور لموازاة الظروف الفكرية، والثقافية الخاصة التي عايشها الإنسان الغربي بأدق تفاصيلها، مما أدى لانكباب الاهتمام الفلسفي على الدين، في محاولة بالغة لتقريب المسافة أكثر بين الدين والإنسان، فكان محور اهتمام ذلك الجهد متركزاً في صلب قضاياه خلال "عصر الحداثة"، القائم على عماد "محورية الإنسان"، و"التعويل على العقل".
ومن هذا الاتجاه بالذات انطلقت فلسفة "كانط" حين أورد في مؤلفه عن "الدين في حدود العقل وحده"، أنه مقابل اللاهوت الخاص بالكتاب المقدس، هناك لاهوت فلسفي داخل حدود العقل بمجرّده، الذي يستخدم في قضاياه العديد من الوسائل كالتاريخ، واللغات، وكتب الشعوب جميعها، بما في ذلك "الكتاب المقدس".
إن "فلسفة الدين"، وما تحمله من دراسة ذهنية مكثفة، للمعاني والدلالات الواردة في أحضان الأسس الدينية، والإمعان في تحديق الدين لظواهر الطبيعة والميتافيزيقيا كـ"الموت، وجود الخالق"، تعتبر كلها إحدى الفروع الفلسفية التي تجيب عن الاستفهامات ذات العلاقة بالدين، والدين والعلم.. وبالرغم من كونها تمثل منهجية قديمة، ضاربة الجذور في أقدم المخطوطات الفلسفية، فإنها تعد مضماراً حيوياً خصباً يستمد حياته ونشاطه من طبيعة واقع الإنسان الذي لا يتوقف عن التساؤل.
نقلا عن الاتحاد الإماراتية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة