يكرر الرئيس الروسي في أوكرانيا ما فعله في جورجيا قبل عقدين من الزمن. ولكنه هذه المرة خسر أكثر مما ربح.
في عام 2008 نشب نزاع مسلح في جورجيا، أدى إلى انفصال "أوسيتيا الجنوبية" و"أبخازيا" بدعم مباشر من القوات الروسية التي كانت طرفا مباشرا في المعارك. وسرعان ما اعترفت روسيا بـ"استقلال الجمهوريتين".
كان ذلك ردا على إعلان استقلال كوسوفو التي تحولت إلى دولة يعترف بها الغرب بعد انفصالها عن صربيا. وكان نوعا من مقامرة رابحة ردا على مقامرة رابحة!
الأمر بدا في ذلك الوقت، وكأنه إعادة ترتيب خرائط بين روسيا وخصومها الغربيين. ولكنه كان على وجه الحقيقة الأهم إعادة ترتيب خرائط استراتيجية، وذلك عندما أظهرت جورجيا ميلا إلى إقامة روابط مع الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي على حساب روابطها التاريخية مع روسيا.
الشيء نفسه يتكرر الآن في أوكرانيا. فالانعطاف الأوكراني نحو الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي الذي بدأ منذ "الثورة البرتقالية" التي قادها "المعارض" ثم الرئيس فيكتور يوشينكو في عام 2004، أدت بعد عشر سنوات من التوجه الأوكراني نحو الغرب، إلى اندلاع نزاع مسلح في إقليم الدونباس، شرق أوكرانيا، وأسفر عن ظهور "جمهوريتين"، على غرار أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، هما "جمهورية لوغانسك الشعبية" و"جمهورية دونيتسك الشعبية"، وذلك مباشرة بعد أن "استعادت" روسيا سيادتها على شبه جزيرة القرم.
فصلُ أجزاءٍ من أوكرانيا، كما هي الحال مع جورجيا، كان نوعا من عقاب روسي على الخروج عن "طاعتها"، التي تشكلت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991، تحت اسم "رابطة الدول المستقلة". فباستثناء دول البلطيق الثلاث: أستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا، التي آثرت البقاء بعيدا وحظيت بدعم أوروبي وأطلسي قوي ومباشر بعد استقلالها، فإن دول "الرابطة" الأخرى كانت تضم كل الجمهوريات السوفييتية السابقة بما فيها جورجيا وأوكرانيا، وذلك إلى جانب أرمينيا، وأذربيجان، وروسيا البيضاء "بيلاروسيا"، وكازاخستان، وقيرغستان، ومولدوفا، وطاجكستان، وتركمانستان، وأوزبكستان.
جورجيا استسلمت تدريجيا لواقع انفصال أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، ولو دون اعتراف بهما، ولكنها بقيت على تطلعاتها للالتحاق بالأطلسي. بل إن هذه التطلعات زادت قوة بسبب ما أصبح جُرحا لا يندمل في باقي الأراضي الجورجية.
الشيء الوحيد الذي خان هذه التطلعات هو الجغرافيا، بسبب بُعد جورجيا عن أوروبا.
الأمر مختلف تماما بالنسبة لأوكرانيا التي تقع على الحدود الشرقية للاتحاد الأوروبي. وبينما يقول الرئيس "بوتين" إن أوكرانيا، تاريخيا، جزء لا يتجزأ من روسيا "القيصرية والسوفييتية على حد سواء"، إلا أنه بقراره الاعتراف بـ"جمهوريتي" إقليم الدونباس، يكاد يعترف من الناحية الواقعية بـ"انقطاع الأمل في استعادة النفوذ على باقي أوكرانيا".
جورجيا وأوكرانيا قد لا يتمكّنان من الالتحاق بـ"الأطلسي"، تحت وطأة التهديدات والمساومات المألوفة بين روسيا والولايات المتحدة، إلا أنهما لن يعودا إلى الدوران في الفلك الروسي. ولن يكون لروسيا أي فرصة للتأثير على قرارهما المستقل، لا الآن ولا في المستقبل.
هذا يعني أن الرئيس "بوتين" ربح بعض قطع إضافية من الأرض، إلا أنه خسر كل شيء آخر.
الروابط التاريخية بين روسيا وأوكرانيا قوية بالفعل. أوكرانيا، أكثر من أي جمهورية أخرى من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، ترتبط بروسيا دينيا وثقافيا واقتصاديا وسياسيا إلى درجة لا يمكن حتى تخيل أنها أصبحت دولة مستقلة. حتى إن الزعماء الروس، من ستالين إلى خروتشوف، كانوا يمنحون ويُخضعون بأريحية أراضيَ روسية لإدارة أوكرانية.
ربما "خسرت" روسيا، إلى الأبد، هذه الروابط. "مزَّقها" بوتين" بنفسه، وحوَّلها إلى علاقة تمرد وكراهية، منذ أن أنشأ بنفسه تلك "الجمهوريتين"، فتحوّلتا إلى سبب لنزاع مسلح، وإلى أزمة تختلط فيها الآلام والدماء بمشاعر اليأس والغضب.
ربما "فاز" بوتين بالقليل، ولكنه قد يكون "خسر" كل أمل في استعادة ذلك الجزء من التاريخ الروسي نفسه. فاز بـ"جمهوريتين وهميتين" و"خسر" أوكرانيا.
لا حاجة إلى القول بأن بلاده سوف تتعرض لعقوبات إضافية. لا حاجة إلى التذكير بأن روسيا أقامت جدارا عاليا بينها وبين الاتحاد الأوروبي، ولو حافظت على ثغرة أنبوب أو اثنين للغاز، ريثما يتم الاستغناء عنهما، إلا أنها انكفأت على نفسها مثلما كانت عليه الحال خلال سنوات الحرب الباردة.
سبب الخسارة الرئيسي، هو انعدام الثقة وعدم نضج النموذج، حتى لو تغلّف بالقوة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة