تغير المشهد السياسي والعسكري على الساحة الأوروبية، وفجأة بدأت الصعوبات والمنعطفات تواجه العالم أجمع.
عاد الزمن ليلعب لعبته مع أمريكا، صانعة النظام العالمي الجديد، ولوّح التاريخ مهدداً، ومن ثم عادت الأزمات والتوترات التي تشكِّل أسلحة التاريخ، لتفرض نفسها بالقوة على دول العالم.
كانت اقتصاديات آسيا تشكل تحدياً كبيراً في وجه الاقتصاد الأمريكي والاقتصاد الأوروبي على حد سواء، وتصاعدت عمليات الإرهاب في بقاع شتى من العالم، وتزايدت الأوبئة والتغيرات المناخية.
ثمة تنافس بين الشرق والغرب ساعد على خلق صراعات متباينة ليست لها بداية ولا نهاية، والقارة الأوروبية "خاضعة بمجملها" للسياسة الأمريكية، بحيث أثر الناتو على المجتمع الأوروبي، ما أدى إلى وقوع تشابكات سياسية داخلية فيما بين دول القارة، قد تجعلها جاهزةً لتبدل نظامها القديم بآخر حديث، ولكن لماذا تسير الأمور وفقاً لهذه التباينات، وبشكل خاص في أوروبا؟
في لحظة بداية الصراعات المريرة، التي لا يكتنفها قانون ولا يحيطها نظام، كانت الاهتمامات الأمريكية الأمنية قوية وتأخذ منحى أوروبياً, ولكن هذه الاهتمامات والطموحات تحيطها الصراعات والمصالح, لكن المصالح الأمريكية الأمنية تبدو أكثر إسهاباً، فالأمريكيون قلقون حول الأسلحة النووية في شبه الجزيرة الكورية وفي منطقة الشرق الأوسط وفي روسيا الاتحادية، وكما هي الحال في أوروبا، أقوى شركاء أمريكا في الأعمال التجارية، إذ تعتمد قوة الاقتصاد الأمريكي على هذه المناطق العالمية بشكل كبير جداً.
وتصاعدت وقائع التفاعلات السياسية والاتفاقيات العسكرية مجدداً إبان انهيار العلاقات الفرنسية-الأمريكية، إثر إعلان الرئيس الأمريكي "بايدن" إطلاق شراكة استراتيجية مع المملكة المتحدة وأستراليا، تتضمن تزويد "كانبيرا" بغواصات أمريكية تعمل بالدفع النووي، ما أخرج عملياً الفرنسيين من اللعبة، وشكَّل هذا القرار المفاجئ امتعاضاً فرنسياً وغضباً حيال هذا التحالف الثلاثي المثير للجدل عالمياً، فيما أعلن رئيس الوزراء الأسترالي فسخ أستراليا عقداً ضخماً بقيمة 56 مليار يورو أبرمته بلاده مع فرنسا لشراء غواصات.
وتتجه أستراليا لتعزيز علاقاتها مع الدول الصغيرة قبالة ساحلها الشرقي، في مواجهة نفوذ الصين المتزايد في المحيط الهادي، في وقت سبَّب فيه تفشي فيروس كورونا حظر السفر والتواصل بين هذه الدول، رغم أن حكومة أستراليا قد وعدت بتزويد جيرانها بلقاحات كورونا كجزء من حزمة بقيمة 500 مليون دولار أسترالي تهدف إلى تحقيق تغطية تحصين شاملة، كما وقّعت اتفاقية تاريخية مع جزيرة "فيجي"، وهي إحدى الدول الأكثر اكتظاظاً بالسكان في المنطقة، وتسمح الاتفاقية بالانتشار العسكري والتدريبات الميدانية.
وتحاول فرنسا المشاركة على المستويين الإقليمي والعالمي، وتشجع الأوروبيين على أن يكونوا متأهبين أكثر للدفاع عن مصالحهم في المنطقة، في ظل غياب بنية أمنية في تلك المنطقة التي تتعايش فيها منظمات وتحالفات اقتصادية، أبرزها "آسيان وشنغهاي وأبيك وكواد"، والآن -أوكوس- الحلف الثلاثي الجديد، والذي يشكل تحالفاً أمام الصين.
على الجانب الآخر، فإن زيارة الرئيس الفرنسي إلى كييف وموسكو هدفت لحصول "ماكرون" على ضمانات من الرئيس "بوتين" بشأن تهدئة التوترات مع أوكرانيا، ولخفض التصعيد بين موسكو والعواصم الغربية، باعتبار بلاده عضواً في الناتو ورئيسة مجلس الاتحاد الأوروبي للمرة الأولى منذ 14 عاماً، ومن بداية يناير/كانون الثاني 2022م، وعدا عن ذلك فإن ولايته الرئاسية تنتهي في شهر أبريل/نيسان القادم.
ويحرص "بوتين" على إطالة الأزمة الأوكرانية، وإخضاعها للتوترات المتصاعدة تهديداً بالحرب، فيما أمريكا قلقة حيال التحركات الروسية ومتخوفة من احتمالية تقديم "ماكرون" تنازلات قد تجعل أوروبا أكثر استقلالية عن الولايات المتحدة.
ويتعرض مفهوم الجيوستراتيجية الغربية لتغييرات طفيفة، فقد حافظ على طبيعته عبر حروب التدخل العسكري في مناطق تتوق شعوبها للأمن والسلام، في مقابل الحفاظ على مصالح وأمن الغرب, أما الهدف الخطر بالنسبة لكل هذه الأحلاف فهو الاتحاد السوفييتي سابقاً/روسيا، فقد تأسست هذه الأحلاف أصلاً لتطويقه في أوروبا والشرق الأوسط وأيضاً في جنوب شرق آسيا.
وأثرت الحرب الباردة بين أوروبا وأمريكا بشكل جدي على القارة الأوروبية, وتحطمت آمالها ببناء قارة ثابتة غير مضطربة، في حين أن روسيا الاتحادية ظهرت من أنقاض الاتحاد السوفييتي سابقاً, لكن بقيت تملك أكبر جيش لها في أوروبا بحيث يجعلها أفضل من جيرانها.
على الجانب الكوري الشمالي، نجد أنه إذا قامت الولايات المتحدة بشن حرب ضد كوريا الشمالية، فإنها لن تكون حرباً محدودة أو نزاعاً إقليمياً، ولكن ستكون حربا شاملة، وستعمد كوريا إلى استخدام استراتيجية الرد الهائل كخطة واسعة النطاق لصد هذه الهجمات وجعلها من مجرد هجمات استباقية إلى حرب شاملة، وقد لا تتوقع كوريا الشمالية أي مساعدة من حليفَيْها، الصين وروسيا، فربما تكونان مشغولتين في مواقع ميدانية أخرى.
ذلك بعض مما يقلق أمريكا وأوروبا معاً في المحيطين الهادي والهندي وفي بحر الصين الجنوبي وفي الساحة الأوروبية جراء تصاعد حدة الصراعات، وربما تُفضي في نهاية المطاف إلى مواجهات حتمية لا تُحمد عقباها بين القوى العظمى.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة