الأزمة الروسية-الأوكرانية تلقي بظلالها اليوم على المشهد الدولي ككل.
اتصالات واجتماعات، مؤتمرات وزيارات، وفي الوقت نفسه، يبدو أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، قرر تفكيك الخرائط في أوروبا مجدداً، مع إعلانه الاعتراف رسمياً بـ"استقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك".
الغرب يرى تلك الخطوة -اعتراف بوتين بالجمهوريتين- "بداية لقضم مزيد من أراضي أوكرانيا"، والولايات المتحدة وبريطانيا تجدان فيها "خطوة مباشرة لغزو أوكرانيا خلال الأيام المقبلة"، بينما يحبس الأوروبيون الآخرون أنفاسهم، لا سيما ألمانيا التي خلّف رحيل المستشارة أنجيلا ميركل فراغاً بها لا يمكن لخلَفِها، أولاف شولتس، مَلأه، بحسب منتقديه.
أما فرنسا، التي يعتزم فيها الرئيس إيمانويل ماكرون ترشحه لولاية رئاسية جديدة، فإن معارضيه يتربصون به، ويعتبرون دبلوماسيته "المبالغ فيها" حيال روسيا، جزءا من حملته الانتخابية الرئاسية، التي يدشنها الرجل بهدوء غير قابل للصدام مع موسكو، لأن باريس لم تنسَ بعدُ موقف أمريكا وبريطانيا حيال أستراليا في أزمة بيع الغواصات، التي أفقدت فرنسا عقوداً بمليارات الدولارات.
ومع أن الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، كان نجم مؤتمر ميونيخ للأمن، وحظي باستقبال غير مسبوق، فإن مطالب بلاده الأمنية والدفاعية عسكرياً لم تتم تلبية معظمها، كما أن حجم المعدات التي مُنحت له لا تكفي لصد الهجوم الروسي الشامل على بلده، حال وقوعه.
وبين معادلة الحرب الوشيكة والحوار الروسي الغربي -غير المفيد حتى اللحظة- عبرت قوات روسيا إلى إقليم دونباس الأوكراني، وحسم صناع القرار في الكرملين، فيما يبدو، أمرهم، بنشر الجيش الروسي في المنطقتين المواليتين لروسيا على الأراضي الأوكرانية، بعد مطالبات مجلس الأمن القومي الروسي "بوتين" باتخاذ هذه الخطوة.
التحضير الغربي لرد حاسم على موسكو يشوبه كثير من الحذر، وهو محفوف بأخطار الانزلاق لمواجهة عسكرية شاملة في القارة العجوز، التي تعاني أصلاً أزمات الطاقة المرتبطة بتصدير الغاز الروسي لعدد كبير من دولها، ونية الشركة الروسية الحكومية، المعنية بذلك، اتخاذ إجراءات تجارية تضر بمصالح دول صناعية كبرى، مثل ألمانيا وفرنسا.
ويبدو أن حكايات الحرب الباردة بين الغرب والاتحاد السوفييتي سابقاً تُكتب الآن بفصول جديدة وتموضع عسكري مختلف، بعد أن أعاد الرئيس الروسي عقارب الزمن إلى الوراء، تحت عباءة الاتحاد الروسي، الذي ورث عن السوفييت ترسانة عسكرية ونووية لا يُستهان بها، ليضع العالم بأسره أمام سيناريوهات مخيفة، سيما وأن "بوتين" اعتمد في خطابه الأخير على سردية تاريخية مستوحاة من زمن الحقبة البلشفية.
وبينما يُطرح السؤال الكبير: هل الدول الصغيرة مجرد ملاعب للأقوياء؟، فإن الجواب الحاضر الغائب عن هذا السؤال مفاده أن زمن القوة أسس له خطاب "بوتين"، الذي تحدث عن قارة أوروبية بأكملها، محدداً معايير مستقبلها، بل وربما خريطتها الجديدة.
وبما أن القرن الحادي والعشرين يسير على مقولة "العالم قرية صغيرة"، فالحرب في أي بلد فيه هي منطلق للتأثير على مصالح الجميع، فالصين كقوة عالمية تتفهَّم مخاوف جارها الروسي تجاه أمنه القومي دون الوقوع في الحماسة أو التورط الفعلي في أتون صراعات مفتوحة.
وفي منطقتنا العربية، أتساءل: هل تُوظِّف القوى الغربية دخان الأزمة الأوكرانية-الروسية للتغطية على هدايا الاتفاق المحتمل في فيينا؟، فالاتفاق النووي بين إيران من جهة وأمريكا والغرب من جهة أخرى بات قاب قوسين أو أدنى من التوقيع، فيما نِسبُ التفاؤل السياسي والدبلوماسي أصبحت متفاوتة بناء على التحرك الروسي الجديد حيال أوكرانيا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة