جدل كثير يثار من فترة إلى أخرى، حول حيادية الإعلام الغربي فيما يتعلق بقضايا الشرق الأوسط، وتحديداً هناك قضايا بعينها لا يحيد الإعلام الغربي عن الكيل بمكيالين في التعاطي معها، يتصدرها الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني.
المحتك بالمنصات، والوكالات الغربية، يدرك جيدا كيف يتم توظيف مصطلحات بعينها، والاستعانة بسياقات في توقيتات محتلفة، لإيصال الرسائل التي تخدم وجهة النظر الغربية، لذا هناك دوماً توجيهات بضرورة "فلترة" أخبار وتقارير هذه الوكالات حتى تتناسب مع السياسة التحريرية للمنصات العربية.
الأمر لا يقتصر على قضايا الشرق الأوسط فقط، ولكنه امتد إلى الحرب الروسية الأوكرانية، وأزمة الصين وتايوان، الإعلام الغربي في هذه القضايا يمثل رأس حربة تهيئة الرأي العام العربي، للقرارات التي تتخذها حكومات بلاده. مثلما أشرت باتت هذه مسلمات يتم تعاطي الإعلاميين معها قبل إعادة نشرها للقارئ العربي.
لكن الأمر هذه المرة جد خطير، إذ عايشت هذه التجربة التي -حسناً- لم يكتب لها النور. قبل أشهر ليست بعيدة تلقيت رسالة من المنصة الشهيرة.
Tomorrow’s affairs تضمنت رغبة إدارة التحرير في التعاون معي عن طريق كتابة تحليلات سياسية عن قضايا الشرق الأوسط، وأنهم يريدون مني إرسال عدد من التحليلات المنشورة، بعد ترجمتها للغة الإنجليزية، من خلال عنوان بريد بعينه تم إرساله لي. وعلى الفور أرسلت التحليلات على عنوان البريد المرسل، وبعدها بساعات تلقيت رسالة ثانية يشكروني من خلالها على سرعة الاستجابة، وأبلغوني بأن مساعد رئيس التحرير"سيمون ماكدونالد" سيتواصل معي في أقرب فرصة.
وبعد فترة ليست قصيرة أرسلت لهم تذكير بأنه لم يتواصل معي أحد، هل معنى ذلك أنه تم إلغاء الفكرة أم أن هناك جديدا طرأ على الأمر؟ ولكن لم أتلق رداً.
بعدها بنحو 5 أسابيع تقريباً تلقيت منهم رسالة تفيد بأنه بعد بحث التحليلات المنشورة تبين لهم- من وجهة نظرهم-
أنني لست موضوعياً، في تناولي للحرب في غزة، لذا من الصعب التعاون مستقبلا. وفور تلقي الرسالة رددت عليهم بما يفيد بأن هذه وجهة نظرهم، وأن الموضوعية التي تتحدثون عنها تستوجب تسليط الضوء على المعاناة الإنسانية في القطاع.
أسئلة مشروعة
طويت هذه الصفحة للأبد، لأنه في حقيقة الأمر، لم أعير أي اهتمام لرأيهم، لأن تحليلاتي السياسية سواء في الملف الإسرائيلي - الفلسطيني أو غيرها من الملفات الأخرى، تعبر عن كامل قناعاتي. لكن هذا الموقف أثار في نفسي كم هائل من علامات الاستفهام.
هل هناك معايير للموضوعية في الإعلام الغربي غير التي يتم تدريسها في جامعات العالم؟ من يملك الحق في إصدار صكوك هذه الموضوعية؟ هل يعني اختلاف وجهات النظر في التحليلات السياسية يعني الاتهام بعدم الموضوعية؟ هل الموضوعية من وجهة نظرهم، تتمثل في تناول ما يهم الشرق الأوسط من منظورهم الغربي؟
وفقا للتعريف الأكاديمي للموضوعية، فإنها أعلى قيمة في العمل الإعلامي، لأنها تساعد في بناء ثقة الجمهور بالمؤسسة الإعلامية، وتساهم في تقديم صورة واقعية، وغير مشوهة عن الأحداث، فضلاً على أنها ضمانة لتقديم المعلومات والأخبار بشكل دقيق، ومحايد، ومتوازن، دون انحياز أو تحيز لأي طرف أو وجهة نظر معينة.
من ثم فإن هذه القواعد حاكمة لعمل المؤسسات الإعلامية شرقاً وغرباً، وأي حياد عنها يؤدي إلى تأكل المصداقية، ويشوه الحقائق.
تغذية من طرف واحد
في تقديري أن هذه المؤسسات تعي هذه القواعد جيدا، وتستثني قضايا الشرق الأوسط من الالتزام بها، لأنها تعتمد على استراتيجية إعلامية "تغذية من طرف واحد"، بمعنى أنه مع ندرة المنصات العربية الناطقة بالإنجليزية، بات الجمهور يتغذي معلوماتياً من اتجاه واحد فقط، وبالتالي لا يستطيع اكتشاف "عدم الحيادية"، وكذا يتم تشكيل وعيه بما يُملى عليه، ومن ثم تطويعه للقرارات التي تتخذها حكومات بلاده بشأن قضايا المنطقة.
الأمر الآخر، يتمثل في دخول الولايات المتحدة، ودول أوروبية في تحالفات تحالفات استراتيجية مع إسرائيل، أضف إلى ذلك، فإن إسرائيل تمتلك لوبي إعلامي وجماعات ضغط، تدافع عن مصالحها في العديد من الدول، وتعمل على التأثير على التغطية الإعلامية والتصدي لأي محتوى يُعتبر معاديًا لإسرائيل.
هناك قطعاً عوامل سيكولوجية وعقائدية أخرى، لكنها من وجهة نظري أقل تأثيرا وعمقاً. غير أن مالم تتحسب له الميديا الغربية، بروز السوشيال ميديا والإعلام الغربي الموازي، إذ شهدت السنوات الأخيرة تزايد الوعي بين الجماهير حول الانحياز الإعلامي.
أصبح القراء والمشاهدون أكثر قدرة على نقد المعلومات التي يتلقونها، والتحقق من مصادر متعددة قبل تكوين آرائهم. أدى هذا الوعي إلى تراجع الثقة في التغطية الإعلامية التقليدية، وباتت هناك رؤية نقدية لما يبثه الإعلام حول قضايا الشرق الأوسط.
هناك عامل آخر، يتمثل في زيادة الأخطاء والتناقضات في التقارير الإعلامية، إذ تسبب ذلك في فقدان ثقة الجمهور المتلقي في وسائل الإعلام.
بيت القصيد.. دوما يصور الإعلام الغربي نفسه على أنه النموذج الذي يحتذى. يستدعي المثالية حينما تتكامل مع مصالحه، ويدير لها ظهره عندما تتقاطع مع مصالحه. يهتم بالانتهاكات في دول معينة وفقًا للأجندات السياسية، ويغض الطرف عن انتهاكات حلفائه. هذه الازدواجية تضعف الموضوعية، وتهيل التراب على المصداقية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة