أوجلان الذي برز كرجل سلام رغم كل الاتهامات التركية له، رشحه العديد من المنظمات والجهات الدولية لنيل عدد من الجوائز الدولية
في منتصف شباط / فبراير عام 1999، وجد الزعيم الكردي عبدالله أوجلان نفسه في طائرة خاصة، معصوب العينين ومقيد اليدين، برفقة عناصر إستخبارات تركية خاصة، تنقله من العاصمة الكينية نيروبي إلى العاصمة التركية أنقرة.
تم ذلك عبر عملية إستخباراتية معقدة، شاركت فيها المخابرات التركية والإسرائيلية والأمريكية والكينية، عندها أحس أوجلان أن السماء ضاقت بأحلامه، وأن معتقل إيمرالي التركي بات بمثابة القدر الذي يحكم سنوات عمره المتبقية.
أحلام صعبة التحقيق وربما مستحيلة في ظل نظام أردوغان، لكن القضايا الصعبة لا تتوقف عند أشخاص، كما لا تكتمل قصصها إلا بحروف من صبر وعمل وإرادة وأمل وقناعة ... بأن تكلفة السلام هي أقل من الرصاص مهما طال الزمن.
في معتقل إيمرالي، وجد أوجلان الثائر أن تحرير كردستان، كما دعا إليه عند تأسيس حزب العمال الكردستاني عام 1978 ، مهمة صعبة جدا أن لم نقل مستحيلة، عندها أدرك الرجل ان السياسة ليست أيديولوجية وشعارات فقط، وإنما مصالح دول وسياسات وإمكانات ... إلخ.
فكان إنتهاج الواقعية الممكنة بعد أن أصبح رمزا، حفر أسمه عميقا في وجدان الكرد الذين خرجوا في تظاهرات مؤيده له في مختلف أنحاء العالم، إذ يكفي أنه أحيا القضية الكردية في تركيا بعد أن أعتقد الأتراك عقب تاسيس جمهوريتهم عام 1923.
إن هذه القضية انتهت وإلى الأبد. في المعتقل، كانت مسيرة وتجربة المناضل الإفريقي الرمز نيلسون مانديلا حاضرتين في ذهن أوجلان، فقفزت كلمة السلام إلى كل بيان أو خطاب أو لقاء أو جهد قام بها أو أصدره، تقول التقاري إنه قرأ خلال فترة وجوده في المعتقل مئات الكتب، وخصص جزءا من مصروفه الشهري لشراء مجلات وكتب، عاش في غرفة كانت مساحتها 11 مترا قبل أن يتم نقله إلى مكان أوسع بقليل، فيما يحرسه قرابة 700 ضابط وعنصر بالتناوب في جزيرة إيمرالي.
كتب أوجلان في السجن عشرات الكتب والابحاث، معظمها عن تاريخ التحولات السياسية والإجتماعية والفكرية في منطقة ميزوبوتاميا ( بلاد ما بين النهرين )، حيث يعشق أوجلان الفلسفة في تاريخ بلاد ما بين النهرين ، ويحاول تفكيك الأساطير القديمة وكيفية تحولها إلى مسارات للفلسفة والفكر، طارحا من وحي كل ذلك رؤيته للحل والتعايش السلمي بين شعوب المنطقة.
ما بين إعتقاله إلى يومنا هذا، نجح أوجلان في تحقيق أمرين مهمين، الأول : الحفاظ على قيادته القوية لحزب العمال الكردستاني رغم كل هذه السنوات في المعتقل، حتى بدا أن قيادة الحزب في جبال قنديل تعمل بأوامر وتوجيهات مباشرة منه. الثاني: إنطلاقا من الحقيقة السابقة، جعل أوجلان من نفسه مفتاحا لحل القضية الكردية في تركيا سلما أو حربا، وبسبب ذلك أدركت تركيا أهمية أوجلان كرمز كردي، فعدلت من قوانينها، وللمرة الأولى ألغت عقوبة الإعدام عام 2004، وعدلت حكم الإعدام الصادر بحقه إلى المؤبد.
مع إدراك أردوغان حقيقة هذا الرمز في الوجدان الكردي، أقترب منه، محاولا من خلاله نسج عملية سياسية لإستقطاب الكرد في تركيا والمنطقة لصالح أجندته الداخلية والإقليمية، فأرسل رئيس إستخباراته هاكان فيدان إلى السجن.
مباحثات فيدان وأوجلان استمرت لسنوات وأنتهت ببيان أوجلان الشهير في الحادي والعشرين من آذار عام 2013 حيث يحتفل الكرد بعيدهم القومي المعروف بعيد النوروز، عندما أعلن أن عهد الرصاص ولى، مبشرا بالدخول في مرحلة سلام، لتنطلق بعدها المفاوضات علنا مع الحكومة التركية وصولا إلى التوقيع على إتفاق ( دولمة باهجه ) للسلام بين الطرفين، قبل أن ينقلب أردوغان على كل ذلك لحسابات خاصة به، ويعلن الحرب على حزب العمال الكردستاني من جديد على وقع تطورات دراماتيكية شهدتها سوريا والعراق وظهور تنظيم داعش وإعلانه ( دولته الإسلامية ).
لقد اكتشف أوجلان أن أردوغان يريد من المفاوضات معه، تلك الكلمة السحرية منه لإنزال المقاتلين الكرد من الجبال وتسليم أسلحتهم، دون أي اعتراف دستوري أو سياسي بحقوق الكرد وهويتهم القومية، وربما وجد أوجلان أن أردوغان يريد منه توظيف الكرد في أجندته الإقليمية، على عادة أجداده السلاطين الذين كانوا يجندون الشعوب التي وقعت تحت الاحتلال العثماني لصالح حروبهم الكثيرة.
أوجلان الذي برز كرجل سلام رغم كل الاتهامات التركية له، رشحه العديد من المنظمات والجهات الدولية لنيل عدد من الجوائز الدولية المتعلقة بجهود تحقيق السلام، خاصة بعد أن نجح من بعيد في دعم وتشكيل حزب الشعوب الديمقراطية، الذي نجح عبر الإنتخابات في الدخول إلى البرلمان والبلديات ونسج علاقة تعايش مع الشعوب في تركيا، رغم كل الممارسات القمعية لنظام أردوغان لمنعه من القيام بهذا الدور، حيث إعتقلت السلطات التركية أكثر من عشر آلاف عنصر من الحزب وزجتهم في السجون بما في ذلك الرئيس السابق للحزب صلاح الدين ديميرداش، كما عزلت عشرات رؤساء البلديات الكرد المنتحبين من مناصبهم، وعينت بدلا منهم موالون لأردوغان.
الثابت في تجربة الصراع التركي – الكردي، أن النهج العسكري للحكومات التركية المتعاقبة، فشل في إنتاج حلول سياسية لهذا الصراع، ومع أن أوجلان تحول إلى رمز بيده المفتاح لدفع أي حل سياسي إلى الأمام إلا أن
أردوغان يصر على أن الدبابات والطائرات والمدافع ... هي وحدها طريق الحل، فيما يبقى حلم أوجلان كسر جدران إيمرالي ليكون حرا ومنتصرا في هيئة مانديلا الكرد، ويتوج ذلك بحل سياسي يعيد صوغ السياسة والجغرافية تركيا وكرديا، أحلام صعبة التحقيق وربما مستحيلة في ظل نظام أردوغان، لكن القضايا الصعبة لا تتوقف عند أشخاص، كما لا تكتمل قصصها إلا بحروف من صبر وعمل وإرادة وأمل وقناعة ... بأن تكلفة السلام هي أقل من الرصاص مهما طال الزمن.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة