في الوقت الذي تنخفض فيه أسعار النفط بهذه المستويات الكبيرة يرى بعض أعضاء منظمة الأوبك أن هناك مبالغة بشأن مخاوف التراجع الاقتصادي
شهدت أسعار النفط مؤخرا تقلبا واسعا، فقد مرت أولا بانخفاضات كبيرة، حيث انخفض سعر برميل النفط الخام من نوع برنت بنحو 13% في الأسبوع الأول من هذا الشهر، أو بانخفاض نسبته 22% عن الذروة التي بلغها سعر البرميل في أبريل/نيسان الماضي والمقدرة بنحو 75 دولارا للبرميل. ثم عاد سعر برميل برنت للارتفاع بمقدار 9%، من بينها ارتفاع بما يقرب من 5% في يوم الثلاثاء الماضي وحده، بعد إعلان الولايات المتحدة تأجيلها لفرض رسوم جمركية على عدد من السلع الصينية من أهمها الإلكترونيات.
في الوقت الذي تنخفض فيه أسعار النفط بهذه المستويات الكبيرة يرى بعض أعضاء منظمة الأوبك أن هناك مبالغة بشأن مخاوف التراجع الاقتصادي العالمي، والذي مارس ضغطا نزوليا على الأسعار، والواقع أن ما يؤيد أن هذه الانخفاضات ربما ترجع أكثر لعوامل المضاربة وليس لمستويات العرض والطلب الفعليين
وقد حدث الانخفاض الأكبر في الأسعار على وقع حدثين يرتبطان بالخلافات التجارية الصينية الأمريكية، إذ انخفض سعر البرميل بما يقرب من 7% بعد إعلان الرئيس الأمريكي في الأول من أغسطس/آب الجاري فرض رسوم جمركية قدرها 10% على سلع تستوردها بلاده من الصين تبلغ قيمتها 300 مليار دولار بدءا من الأول من سبتمبر/أيلول المقبل، وردت الصين على هذا الإجراء بوقف صادراتها من السلع الزراعية الأمريكية، وبالطبع أدى هذا التصعيد في النزاع التجاري إلى مخاوف بشأن انخفاض مستوى التجارة الدولية وتباطؤ النشاط الاقتصادي في العالم وما يترتب عليه من انخفاض الطلب على النفط.
الانخفاض الثاني الكبير في سعر برميل النفط حدث بعد انخفاض قيمة العملة الصينية اليوان لتسجل أكثر من 7 يوانات للدولار، وهو ما يعد أقل سعر لهذه العملة منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008، ونظر البعض لذلك على أنه سعي من قبل الصين لتحييد أثر الرسوم الجمركية الجديدة، وعلى الفور أعلنت الولايات المتحدة أن الصين بلد "متلاعب بالعملة"، إذ من المعروف أن خفض سعر صرف عملة أي بلد يجعل أسعار صادراته أقل في أسواق العملات الأخرى وفي الوقت ذاته يجعل وارداته من هذه الأسواق أعلى سعرا، وبالتالي يعطي تخفيض سعر صرف العملة في أي بلد ميزة تنافسية غير عادلة في مواجهة شركائه التجاريين. وهكذا نظرت الإدارة الأمريكية لأمر خفض سعر صرف اليوان. ولا يتفق صندوق النقد الدولي مع هذه النظرة؛ حيث يرى أن سعر صرف العملة الصينية عند مستوياته التي تبررها الأوضاع الاقتصادية، أضف إلى هذا تدخل السلطات الصينية لعدم السماح للعملة بالانخفاض كثيرا، في محاولة نفي تلاعبها بسعر صرف العملة.
وفي الوقت الذي تنخفض فيه أسعار النفط بهذه المستويات الكبيرة يرى بعض أعضاء منظمة الأوبك أن هناك مبالغة بشأن مخاوف التراجع الاقتصادي العالمي، والذي مارس ضغطا نزوليا على الأسعار، والواقع أن ما يؤيد أن هذه الانخفاضات ربما ترجع أكثر لعوامل المضاربة وليس لمستويات العرض والطلب الفعليين العديد من الاعتبارات:
ربما أول وأهم تلك الاعتبارات هو محافظة البلدان أعضاء اتفاق أوبك+ على تعهدها بخفض مستوى الإنتاج بنحو 1.2 مليون برميل يوميا حتى نهاية مارس/آذار المقبل، بل إن الواقع الفعلي يشير إلى التزام حقيقي بأكثر من المتفق عليه، فقد أعلنت المملكة العربية السعودية (أكبر مصدر عالمي للنفط) أنها ستستمر في تصدير ما يقل عن 7 ملايين برميل يوميا خلال شهري أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول للعمل على استقرار الأسواق، ويقدر أن المملكة تنتج نحو 9.8 مليون برميل يوميا بينما تسمح لها حصة الإنتاج المتفق عليها بإنتاج نحو 10.33 مليون برميل يوميا، أي أنها وحدها تخفض إنتاجها بمقدار نصف مليون برميل يوميا عن الحصة المحددة لها، ويأتي في هذا السياق أيضا إعلان وزير النفط الكويتي خالد الفاضل مؤخرا أن بلاده ملتزمة بالكامل بتنفيذ اتفاق خفض الإنتاج، وأن بلاده خفضت إنتاجها بأكثر من المطلوب بموجب هذا الاتفاق، حيث بلغ الالتزام 160% في شهر يوليو/تموز الماضي، هذا بالطبع إضافة إلى انخفاضات في إنتاج دول أخرى، فخلال الأسبوع الأول من الشهر الذي انخفضت فيه الأسعار انخفاضا بالغا كان إنتاج حقل الشرارة الليبي البالغ نحو 390 ألف برميل يوميا متوقفا بالكامل، كما أن إنتاج إيران انخفض حسب تقديرات وكالة الطاقة الدولية إلى أقل مستوى له منذ الثمانينيات نتيجة العقوبات الأمريكية.
الاعتبار الثاني المهم هو بدء تشكيك العديد من المحللين في إمكانية ارتفاع إنتاج النفط الصخري الأمريكي عند مستويات الأسعار الحالية؛ إذ في رأيهم أصبحت البقع التي تسمح بإنتاج هذا النفط عند مستويات منخفضة من الأسعار أقل، وهو ما يعني توقع عدم ارتفاع الإنتاج في المستقبل في ظل المستوى الراهن للأسعار.
الاعتبار الثالث يتعلق ببدء انخفاض ملحوظ في مستوى المخزونات التجارية من النفط الخام لدى الدول المستهلكة الرئيسية، فقد انخفض المخزون في الولايات المتحدة (أكبر مستهلك عالمي للنفط) على مدى أربعة أسابيع متتالية، وإن كان شهد ارتفاعا محدودا في الأسبوعين الأخيرين إلا أن المخزون يزيد بمقدار 3% فقط عن متوسطه خلال الأعوام الخمسة الأخيرة، كما أشارت البيانات أيضا إلى انخفاض مستوى المخزونات لدى الدول الأوروبية خلال الأسبوع الماضي، أي أن خطة خفض الإنتاج تؤتي ثمارها في شكل انخفاض في مستوى المخزونات لدى المستهلكين الرئيسيين.
نخلص إذا إلى أن هناك رؤيتين بشأن مستقبل أسعار النفط:
الرؤية الأولى: هي تلك التي تؤكد المخاوف الناجمة عن الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وربما كان أفضل تعبير عن هذه الرؤية ما جاء في مذكرة لبنك جولدمان ساكس أن المخاوف المتعلقة بأن تقود الحرب التجارية إلى حدوث ركود تتزايد، وتوقعت المذكرة ألا يتوصل البلدان إلى اتفاق قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية في 2020. وخفض جولدمان ساكس توقعاته للنمو في الولايات المتحدة خلال الربع الرابع من هذا العام بمقدار 0.2% ليبلغ معدل النمو 1.8%، وهو يفوق ما كان متوقعا أن تعكسه التوترات التجارية من تأثير سلبي على النمو الأمريكي. وبشكل عام ترى وكالة الطاقة الدولية مع تصاعد مؤشرات التباطؤ الاقتصادي العالمي أنه سيحدث انخفاض في نمو الطلب على النفط إلى أقل مستوى له منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008، حيث تتوقع الوكالة انخفاض نمو الطلب العالمي على النفط في 2019 إلى 1.1 مليون برميل يوميا، وفي عام 2020 إلى 1.3 مليون برميل يوميا، بعد أن كان هذا النمو خلال السنوات القليلة الماضية يتراوح ما بين 1.5 و1.6 مليون برميل يوميا. وتفترض هذه الرؤية بشكل عام استمرار انخفاض أسعار النفط.
الرؤية الثانية: هي تلك التي ترى أن هناك مبالغات في شأن تأثير حرب التجارة على الاقتصاد العالمي وبالتالي على الطلب على النفط، علاوة على أن تمسك بلدان أوبك+ بخطة خفض الإنتاج، بل الالتزام بمستويات للخفض تفوق ما تم الاتفاق عليه في هذه الخطة، كفيل ببعث الاستقرار في الأسواق وعودة أسعار النفط للارتفاع.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة