حزب الله الإرهابي هو من عين حكومة تتلهى بالتعيينات الإدارية والمالية والقضائية وتتناتش أطرافها
قامت ثورة 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019 على أوجاع واعتراضات اجتماعية واقتصادية. كان واضحاً من البداية أنّها تهرب من السياسة. السياسة بمعناها اللبناني. وهربت كذلك من التنظيم. هربت من تنصيب قيادات. رفض الثوّار تعيين متحدّثين باسمهم. وهاجموا وحرّضوا على كلّ من خرج ليعطي مقابلة أو يدّعي تمثيلاً ما.
قامت تلك الثورة بوجه "الفساد" وبوجه "الطبقة السياسية"، تحت شعار "كلّن يعني كلّن". منذ البداية بدت ثورة بلا آذان. رفضت الاستماع لمن أرادوا النقاش. بعض السياسيين أجابها: الكلّ تحت المساءلة، لكن ليسوا فاسدين كلّهم، بالضرورة. لكن لا تجاوب. "كلّن يعني كلّن" قال الثوّار. شتموا الكلّ. شتائم قاسية، ومُهينة. الكلّ كانوا متّهمين. بدا أن لا نجاة لأحد من ألسنتهم وغضبهم المحقّ.
حزب الله الإرهابي هو من عيّن حكومة تتلهّى بالتعيينات الإدارية والمالية والقضائية، وتتناتش أطرافها، المعلومة والمجهولة، الحصص في هذه التعيينات. وحزب الله هو الذي يحكم لبنان. هذه واقعة لا يريد "قادة" الثورة، وأهلها، الاعتراف بها.
فجأة، توجّهت أرتال من المدنيين الشبّان، بقبضات وحاملي العصي، وراحوا يضربون المتظاهرين في وسط بيروت. خرجوا ليعلنوا: "إلا السيّد". كانوا يقصدون الأمين العام لـ"حزب الله" الإرهابي حسن نصر الله. أزلام نصر الله حاصروا المتظاهرين، وصارت الغزوات شبه يومية في وسط بيروت. حتّى راح الثوّار يردّون: "نحن لا نشتم نصر الله". باتت تهمة، وبات التبرّؤ منها ضرورة في أوساط الثوّار. وتعرّض إعلاميون إلى حملات ممنهجة على مواقع التواصل الاجتماعي، ممن يعارضون حزب الله. كان المقصود الترهيب، وترهيب "النجوم" ليتّعظ الناشطون والمتظاهرون والجائعون والغاضبون.
راح نصر الله يخرج أكثر من مرّة أسبوعياً، ليعلن أنّ الثوّار "عملاء سفارات" تارةّ. ثم بعد يومين يغيّر رأيه: "هؤلاء يتحدّثون باسم الجائعين". ثم بعد يومين متتاليين: "عملاء سفارات"، وهكذا دواليك. أخذ يزرع بذور الشكّ، ويسقيها يوماً بعد يوم. أراد إبعاد جمهوره عن الشارع، والقول لهم إنّ الثورة "فيها إنّ". ولا شكّ أنّه نجح جزئياً. ثم بدأت أذرعه تتحرّك في صيدا، وفي طرابلس وفي البقاع، وطبعاً في الضاحية الجنوبية لبيروت، وفي وسط بيروت، جسر الرينغ، وفي بعض ساحات الجنوب التي فاجأته.
مناصرو سعد الحريري، على سبيل المثال، لم يضربوا أحداً. مناصرو وليد جنبلاط كذلك. بعض المناوشات في الجبل، لكن ليس بالتصميم نفسه الذي في وسط بيروت. مناصرو سمير جعجع انضمّوا إلى الثوّار منذ اليوم الثاني أو الثالث. مناصرو جبران باسيل بدوا في مكان آخر.
وحده نصر الله وحزبه أعلنوا الحرب على الثورة. في الجنوب، ضرب وتكسير للخيم. ناشطون دخلوا المستشفيات. بعضهم كاد يموت، في النبطية وبنت جبيل وكفررمان. حاصر "حزب الله" الثوّار وضربهم وأدماهم وكان خصمهم، رغم تهرّبهم من خصومته.
ثم عيّن نواب حزب الله الإرهابي وحلفاؤه حسّان دياب رئيساً للحكومة، وجاؤوا بحكومة كما أرادوها. وتراجعت الثورة. وجاء زمن كورونا، فعاد الثوّار واللبنانيون، وسكّان الكوكب كلّه، إلى منازلهم.
تنفّس حزب الله الإرهابي الصعداء. 100 فيروس كورونا ولا ثورة شعبية تصطدم به.
حين نتذكّر ثورة 14 مارس/آذار 2005، على سبيل النقد، نقول إنّها فشلت في الاستمرار لأنّها قدّمت الهمّ السيادي على الهمّ الإصلاحي. ولم يكن "العبور إلى الدولة" يعني العبور إلى دولة غير فاسدة. ثم تحالف قادة قوى 14 آذار مع "حزب الله" الإرهابي في انتخابات 2005 النيابية، ضمن ما عُرِفَ بـ"التحالف الرباعي".
هكذا تبخّرت الثورة ولم يعد لها مناصرون، وانتقل الاحتفال بذكرها من الساحات، ثم إلى القاعات، لتنتهي في باحة بيت الوسط بتاريخ 14 فبراير/شباط 2020.
ثورة 17 أكتوبر/تشرين الأوّل فعلت العكس تماماً. بالغريزة السياسية فهم الثوّار أنّ الصراع مع حزب الله الإرهابي لا يطعم جائعاً. قدّمت الثورة الجديدة الهمَّ الإصلاحي على الهمّ السيادي. بل تبرّأت من الهمّ السيادي كليّاً. تركت "حزب الله" جانباً. رغم أنّه لم "يحلّ عنها" ولا يوم، ولا ساعة، ولا لحظة. وظلّ "حزب الله" يمارس عليها الهجمات والغارات اليومية، بسبب وبلا سبب. فقط لتخويف الناس وضربهم وتخويف "البيئة الحاضنة" للثورة من مغبة النزول إلى الشارع والمشاركة في التحرّكات.
ثورة 17 أكتوبر/تشرين الأوّل تجاهلت "حزب الله" الإرهابي وسيطرته بالسلاح والقوّة والقبضات، على مجريات الحياة السياسية.. لكن ماذا كانت النتيجة؟
استقالة سعد الحريري من رئاسة الحكومة، وخروج "القوات اللبنانية" و"الحزب التقدمي الاشتراكي" و"تيار المستقبل" من هذه الحكومة، وتشكيل "حزب الله" حكومته الصافية، بدمى تكنوقراطية.
ثورة 17 أكتوبر/تشرين الأوّل كان مقتلها فيما ظنّت أنّه مصدر قوّتها: الهروب من السياسة. والهروب بمعناه الأوسع، هو هروب من "التنظيم"، ومن تعيين ناطقين باسمها، يفاوضون ويطلبون ويقدّمون مشاريع رئيس حكومة ومشاريع وزراء، ولاحقاً مشاريع مديرين عامين وغيرها.. وحده نقيب المحامين ملحم خلف "زمط" ليتبوّأ منصباً يليق به والثورة.
حين ننظر اليوم إلى الوراء، يبدو واضحاً أنّ من أسباب فشل ثورة 17 أكتوبر/تشرين الأوّل هو هروبها من مواجهة حزب الله. فاليوم، إذا نظرنا ملياً سنكتشف أنّ من هزمها هو حزب الله، وحده. ومن ضرب شبّانها هم شبّان حزب الله. ومن حطّم الخيم، في كلّ مكان تحطّمت خيمة واحدة، هو حزب الله الإرهابي.
ومن حاول تمييع التحرّكات، لجرّ الناس إلى مواجهة المصارف، كواجهات زجاجية، وتصفية حسابات مع حاكم المصرف المركزي رياض سلامة، بدلا من مواجهة من يتحكّمون بالمصارف، هو حزب الله الإرهابي.
حزب الله الإرهابي هو من عيّن حكومة تتلهّى بالتعيينات الإدارية والمالية والقضائية، وتتناتش أطرافها، المعلومة والمجهولة، الحصص في هذه التعيينات. وحزب الله الإرهابي هو الذي يحكم لبنان. هذه واقعة لا يريد "قادة" الثورة، وأهلها، الاعتراف بها.
كلّ الثورات قامت في وجه الأحزاب الحاكمة. لم يثُر أيُّ شعب ضدّ شخص أو مجموعة في واجهة السلطة، ولا ضدّ مصرف مركزيّ ينفّذ سياسات الحكومات المتعاقبة.
هل يوجد ثورة تقوم بوجه موظّفين؟ وتترك "الحزب الحاكم" في شأنه؟
كانت الثورات موجّهة ضدّ الأنظمة الحاكمة، ضدّ الأحزاب الحاكمة، إلا في لبنان. اكتفوا بإسقاط رئيس حكومة السلطة سعد الحريري، وتركوا الحاكم الفعلي يستبدل الحكومة بأخرى، أكثر طواعية من التي سبقتها.
فشلت ثورة 17 أكتوبر/تشرين الأوّل لأنّها رفضت مواجهة حزب الله. وأيّ ثورة لا تضع الهمّين، السيادي والإصلاحي، جنباً إلى جنب، لن يكون لها أيّ مستقبل، ولن يكون لها أيّ انتصار.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة