مواجهة مفتوحة.. أبعاد ودلالات حرب أوغلو على العدالة والتنمية
حزب العدالة والتنمية انزلق إلى متاهات الاصطفاف السياسي لاعتماده على شركاء متشددين وتبنيه لغة سياسية مفرّقة.
بعد مرور أكثر من سبعة عشر عاماً على وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة، وتوجه الرئيس التركي رجب أردوغان نحو بناء نظام سلطوي، عبر الإمساك وحده بكامل مفاصل السلطة في الحزب والدولة، شهد الحزب تغيرات كبيرة تدفعه نحو الهاوية.
ومن أبرز هذه التغيرات، فتح أردوغان جبهة جديدة للصراع مع القيادات القدامى داخل حزبه الحاكم، ممن اضطلعوا معه بتأسيس الحزب، وانطلاقته القوية قبل 17 عاماً، وفي الصدارة منهم رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو.
ودخل المناخ مرحلة الشحن مع داود أوغلو على خلفية تقييم أصدره في أبريل/نيسان الماضي للانتخابات المحلية التي شهدتها البلاد في 31 مارس/آذار 2019، وانتهت بخسارة العدالة والتنمية المدن الكبرى، وخاصة إسطنبول، وأنقرة، وأزمير وغيرها.
كما تصاعدت التصريحات الرسمية الخشنة والتصريحات المضادة بين الرئيس أردوغان وأوغلو، بعد توجه الأخير نحو بناء حزب منافس ومغاير للعدالة والتنمية، ناهيك عن تصريحاته الصادمة حول مساعي الرئيس التركي نحو تكريس الممارسات السلطوية، وإصراره على إبعاده عن موقعه الحكومي كرئيس للوزراء في مايو/أيار 2016 حتى يتيسر له تحويل البلاد لجهة النظام الرئاسي.
وبالرغم من كل التحذيرات والاتهام بالخيانة التي أطلقها أردوغان على أصدقاء الأمس، لا يزال رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو يصر على رفع حرارة حزب العدالة والتنمية والرئيس التركي، عبر حرب كلامية حملت دلالات ومؤشرات على تصاعد حالة الانقسام المجتمعي والتشظي السياسي الذي تعيشه تركيا.
دوافع للهجوم
يتبنى داوود أغلو منذ عودته إلى المشهد السياسي مطلع العام الجاري، خطاباً حاداً، وهو ما يُعطي انطباعاً باتساع الفجوة مع العدالة والتنمية، وظهر ذلك في توبيخه المتكرر للحزب وللرئيس أردوغان، ففي أبريل/نيسان الماضي أصدر تقييماً نال فيه من أداء الحزب في الاقتراع المحلي الذي جرى في 31 مارس/آذار الماضي.
تجدر الإشارة إلى أن هذه ليست المرة الأولى التي يوجه فيها داود أوغلو انتقادات لأردوغان ونظامه، ففي أغسطس/آب الماضي أعرب عن انتقاده لعزل رؤساء البلديات المنتخبين، مؤكدا أنه يدمر الديمقراطية ولا يحترم شعبه.
وفي 22 يوليو/تموز الماضي، ظهرت تصريحات صادمة، أدلى بها تخص إقالته في مايو/أيار 2016، من منصب رئيس الوزراء، حيث قال عبر قناةٍ على يوتيوب: "كان يجب إبعادي من رئاسة الوزراء من أجل تنفيذ سيناريوهات من قبيل انقلاب 15 يوليو/تموز 2016، وتحقيق نقل تركيا من النظام البرلماني إلى نظام رئاسي مغلوط".
وفي حديث لصحيفة "فاينانشال تايمز"، في 31 يوليو/تموز الماضي اعتبر أحمد داوود أوغلو، أن الحزب الحاكم مصاب بحالة من اليأس وسط تزايد خلافات داخلية. وأضاف أن "انحراف" الحزب عن قيمه الأساسية يثير استياء عميقا، بدءا من صفوفه السفلى ووصولا إلى نخبته الأعلى.
يصر رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو برغم أنه يعي هيمنة أردوغان على الدولة حتى أصغر شأن فيها على تسخين الأجواء، وثمة اعتبارات عدة تدفع أوغلو للدخول في معركة تكسير عظام مع حزبه القديم.
تهميش داود أوغلو
دفع الرئيس أردوغان باتجاه تهميش داود أوغلو وتقليص صلاحياته عندما كان رئيساً للوزراء، وهو الأمر الذي دفعه للاستقالة من رئاسة حزب العدالة والتنمية والوزراء في العام 2016.
كما تجاهل الرئيس أردوغان رئيس وزرائه الأسبق داود أوغلو وباقي الرفاق الذين انفصلوا عن الحزب – على بابا جان وعبد الله غل- وقرر إخفاء صورهم من أي محطات سابقة للحزب ضمن احتفالاته بذكرى التأسيس الثامنة عشرة في 14 أغسطس/أب الماضي، ولم يدع أيا منهم لحضور الاحتفالات.
تنامى مشاعر العداء لأردوغان
يعتقد بعض الباحثين الأتراك أن أحد الدوافع الرئيسية لقرار داود أوغلو تشكيل حزب جديد هو "كبريائه المجروح"، فقد أُجبر داود أوغلو على الاستقالة من منصبه كرئيس للحكومة والحزب الحاكم في 2016، برغم جهوده المركزية في إعادة الحزب إلى صدارة المشهد في الانتخابات البرلمانية المبكرة في أغسطس/أب 2015، وذلك بعد مرور أشهر على خسارة الحزب لنفس الانتخابات التي جرت للمرة الأولى في يونيو/حزيران 2015، وفشل الحزب خلالها في تأمين أغلبية برلمانية تؤهله لتشكيل الحكومة منفرداً.
وأجبر داود أوغلو على ذلك بعد ظهور تسريبات مجهولة حول نزاعات طويلة بينه وبين أردوغان.
كسر احتكار أردوغان للسلطة
تعود معارضة داود أوغلو للرئيس التركي بفعل توجه الأخير نحو تكريس الممارسات السلطوية، ويرى أوغلو أن الحزب انجرف عن مبادئه التي قام عليها، وأصبح خاضعا لتسلط أردوغان منذ تحول البلاد لجهة النظام الرئاسي بموجب التعديلات الدستورية التي تم تمريرها في أبريل/نيسان 2017، وأدت إلى وضع سلطات غير مسبوقة بأيدي أردوغان، كما أضر الهياكل والمؤسسات الأساسية في تركيا.
وأطاح أردوغان في مايو/أيار 2016 بـ أحمد داود أوغلو من الحزب ورئاسة الحكومة، لأنه لم يكن متحمساً ولا مقتنعاً بالتعديلات الدستورية التي ألغت النظام البرلماني.
وقال أوغلو خلال فترة وجوده في موقع رئاسة الوزراء: "النظام الرئاسي أولوية.. لكن إذا لم يكن فرضه ممكناً في البرلمان فلا مجال للإصرار عليه".
ضبابية أداء العدالة والتنمية
يعتقد أوغلو أن حزب العدالة والتنمية انزلق إلى متاهات الاصطفاف السياسي فضلاً عن اعتماده على شركاء متشددين، مثل حزب الحركة القومية. كما أصبح الحزب أكثر تراجعاً بعد تبنيه لغة سياسية مفرّقة وليست موحِّدة، حيث يصر الحزب على تجاهل دعوات الإصلاح للملفات الشائكة في الداخل التركي لمصلحة الانحياز للمنطق الأمني في حسم القضايا العالقة، ومواجهة الخصوم.
رفض التوجه الإيديولوجي للحزب
رغم أنه ليس متوقعا أن يعمل داود أوغلو خارج منظومة الإسلام السياسي إذ يراهن على استقطاب المحافظين المتدينين داخل حزب العدالة والتنمية.
غير أن أوغلو يعمل على إعادة صياغة مشروع تجربة الإسلام السياسي التركي، بجعله أكثر انسجاما مع المعايير الديمقراطية المحافظة، التي لا تتعارض مع قيم ومبادئ الديمقراطية الغربية.
ويعارض داود أوغلو في ذات الوقت التوجه الأيديولوجي الذي اعتمده الحزب في دعم حركات الإسلام السياسي في المنطقة، عن قصور الوعي السياسي للعدالة والتنمية في فهم طبيعة العلاقات الدولية، وكيفية تطوير العلاقات بين الدول على أساس المصالح المشتركة والتنمية، وبما يخدم الاستقرار والديمقراطية؛ إذ تحوَّل هذا البُعد إلى مشكلة للسياسة الخارجية التركية تبلورت في شقين أولهما اتساع الهوة بين تركيا ومحيطها العربي، ويرتبط الثاني بالتوجه الجديد للإدارة الأمريكية الساعي إلى معارضة وحظر أنشطة تيارات الإسلام السياسي بكافة اتجاهاتها وتوجهاتها.
انهيار كايرزمة أردوغان
ثمة تداعيات مؤلمة أفرزتها حرب داود أوغلو الكلامية على واقع ومستقبل الرئيس أردوغان وحزبه العدالة والتنمية، وربما على أحمد داود أوغلو رئيس الوزراء الأسبق.
ساهمت تصريحات أوغلو بعد انفصاله عن حزب العدالة والتنمية في خسارة الرئيس أردوغان وحزبه رصيداً وافراً من تعاطف الشارع التركي، ذلك التعاطف الذي مكنه دائماً من الوجود في كل مشهد سياسي مهم، وفي الصدارة أو على الأقل ضمن مكوناته الرئيسة.
ضعف أهل الثقة
رحيل القيادات التاريخية عن حزب العدالة والتنمية، التي كانت أعمدة رئيسة في تجربة النهضة التركية، كشف عن ضعف الدائرة الجديدة من أهل الثقة المحيطة اليوم بالرئيس أردوغان، فكلها تعانى من ضعف إمكاناتها سياسيا وإداريا، وكلها تظن أن ولاءها للرئيس قادر على تعويضها سياسياً.
على صعيد متصل، تراجعت شعبية بطانة الرئيس أردوغان في الشارع التركي، ودلل على ذلك فوز أكرم أمام أوغلو برئاسة بلدية إسطنبول بفارق أكثر من 800 ألف صوت عن بن على يلدريم مرشح العدالة والتنمية. وخسرت قيادات العدالة والتنمية الجديدة بفعل أدوار لها بالدفع في اتجاه أدلجة قوانين ومواد دستورية دون مراعاة لظروف البيئة المحيطة أو تهيئة المناخ المشحون في البلاد. كما يعجز أهل الثقة الجدد حول أردوغان عن فهم التطور الهائل الذي حدث في تركيا والمنطقة بعد تراجع نفوذ جماعات الإسلام السياسي.
والواقع أن الدائرة الجديدة حول أردوغان ليست أكثر من ديكور ديمقراطي لتكريس سلطوية جديدة، عبر الدفع بتفصيل المشهد السياسي وفقاً لرغبات الرئيس أردوغان.
تعزيز الانقسامات داخل العدالة والتنمية
تمثل الحرب الكلامية التي يطلقها رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو منذ أبريل/نيسان الماضي، تحدياً غير مسبوق لأردوغان، إذ تتزامن هذه الانتقادات مع فشل التحايل على الأزمة الاقتصادية التي تعيشها تركيا، إضافة إلى تراجع مناعة البلاد إقليمياً ودولياً، وكان بارزاً هنا تجميد الاتحاد الأوروبي في مارس/آذار الماضي مفاوضات لحاق أنقرة بالعائلة الأوروبية، جنباً إلى جنب توتر العلاقة مع واشنطن بعد مضى الرئيس أردوغان في إتمام صفقة منظومة الدفاع الصاروخية S400 مع موسكو.
والأرجح حرب أوغلو المفتوحة على العدالة والتنمية، ربما توفر بيئة مواتية لتعزيز الانقسامات داخل الحزب، وظهر ذلك في استقالة قياديين بارزين في الحزب الحاكم مطلع سبتمبر/أيلول الجاري؛ وهم وزراء العدل والداخلية والصناعة السابقون، في حكومة أردوغان، إضافة إلى سلجوق أوداغ النائب البرلماني السابق للحزب عن ولاية مانيسا غرب تركيا.
وأثارت هذه الاستقالات غضب الرئيس أردوغان، ووصف المغادرين للحزب بالخونة والمتردين، كما اتهمهم بالسعي للبحث عن مصالح آنية وضيقة من دون الوضع في الاعتبار مصالح الدولة التركية. وواصل أردوغان سهام هجومه على الرافضين لتوجهاته السلطوية، قائلاً: "إن أولئك الذين يشاركون في هذا النوع من الخيانة سيدفعون ثمناً باهظاً".
تشويه سمعة أوغلو
تصاعد التصريحات والتصريحات المضادة بين داود أوغلو، وحزب العدالة والتنمية، تجعل الفُرص مفتوحة أمام صدور الأوامر لوسائل الإعلام، لبدء حملات تلطيخ السمعة الشاملة لرئيس الوزراء الأسبق. وتبقى فرص تشويه أوغلو هي الأوفر، خصوصاً بعد تصريحاته في 23 أغسطس/آب الماضي، والتي أشار فيها ضمناً إلى أن شخصيات بارزة من حزب العدالة والتنمية وشركاء الحزب في التحالف الحاكم من حزب الحركة القومية اليميني المتطرف لعبوا دوراً قذرا في موجة من التفجيرات وقعت بين الانتخابات التي أجريت مرتين، أولهما في يونيو/حزيران 2015، والثانية في أغسطس/أب من نفس العام.
ختاماً يمكن القول إن الحرب المفتوحة قد تدفع الماكينات الإعلامية للعدالة والتنمية للنيل من سمعة أوغلو وحزبه الجديد تحت التأسيس، لكنها في ذات الوقت قد تسفر عن تداعيات مؤلمة على مستقبل العدالة والتنمية، لا سيما أن أوغلو قرر كشف المسكوت عنه، وبدا ذلك في تأكيده أن كثيرين سيخجلون من النظر في وجوه الناس، إذا فتحت دفاتر مكافحة الإرهاب، في إشارة إلى قادة العدالة والتنمية.