إعادة طباعة كتاب يرصد 80 جلسة بين بيكاسو وناقدة أمريكية
دار المدى العراقية تعيد إصدار ترجمة للكتاب الذي ألفته جيرترود ستاين عن بيكاسو وهو أقرب لتأملات حول فنان لا يزال رغم رحيله الأكثر غرابة
يذكر مؤرخو الفن أن الرسام الإسباني بيكاسو التقى بجيرترود ستاين، الكاتبة والشاعرة الأمريكية في باريس، التي كانت تراه شخصا استثنائيا لا يشبه أحدا ولا يشبهه أحد.
أصبحت ستاين (1874- 1946) واحدة من أهم ناقدات القرن الـ20 بفضل علاقتها برسامي عصرها، وهي العلاقة التي دفعت بيكاسو إلى رسمها في لوحة شهيرة هي "فتاة وسلة ورد"، استغرقت منهما 80 جلسة.
ويرى النقاد أن اللوحة لم تكتمل، لكن صاحبتها كانت تقول: "أجد نفسي دائما في هذه اللوحة، تلك الصورة هي أنا".
اللافت في عالمنا العربي أن سيرة هذه الناقدة ورحلتها للمغرب كانت موضوعا لرواية أنجزها الكاتب المغربي حسن نجمي بالعنوان نفسه، أي "جيرترود"، واعتمدت على علاقة عاطفية متخيلة بينها وبين شاب مغربي، وتستعيد الرواية أجواء مدن المغرب لا سيما طنجة في ثلاثينيات القرن العشرين.
مؤخرا أعادت دار "المدى" العراقية إصدار ترجمة للكتاب الذي ألفته جيرترود ستاين عن بيكاسو، وهو كتاب أقرب لتأملات حول عالم الفنان الذي لا يزال رغم سنوات رحيله الأكثر غرابة وإثارة للفضول بين رسامي العالم جميعا.
الكتاب الذي صدر في 114 صفحة ترجمه المترجم العراقي ياسين طه حافظ، وكتب له مقدمة أشار خلالها إلى أن المؤلفة صاغت أسلوبا فريدا في الكتابة يعتمد على حالات العقل أكثر من التعبير المباشر، لدرجة أنها كانت تكتب جملا تكرارية وتتحاشى التنقيط ونظام العلامات.
بفضل هذا الأسلوب نجحت جيرترود ستاين في بناء شهرتها التي دفعت كاتبا بشهرة آرنست همينجواي للاستفادة منها في روايته المعروفة "والشمس تشرق أيضا"، حين أراد أن يعكس الشعور بإيقاع الزمن البطيء.
ولعل أكثر ما يثير دهشة ستاين، كون بيكاسو بنى صداقة مع الأدباء أكثر من صداقاته مع الفنانين والرسامين لأنه لم يكن محتاجا لأفكار للرسم، بل كان يريد أن يعرف أولئك الذين يهوون الأفكار، أما أن يعرف كيف يرسم فلم يكن هذا شاغله لأنه ولد عارفا بكل ذلك.
وهكذا تفسر جيرترود ستاين صداقته بالأدباء السورياليين الذين كانوا أكثر تأثيرا في مسيرته من أي شيء آخر، وكانوا محفزين له، وتقول: "الأفكار الأدبية للرسام ليست هي ذاتها التي يستعملها الكاتب، فالرسام يرى نفسه انعكاسا للأشياء التي وضعها في لوحاته، وهو يعيش في انعكاسات تلك الصور".
وعبر صفحات كتابها تشير بإيجاز وعمق إلى تحولات المسيرة الفنية الغنية في التعامل مع الألوان وتباينات لافتة في تكنيك العمل، وتخضعها لتفسيرات بالغة الأهمية تستند لحوارات مباشرة مع الفنان انطوت دائما على إجابات استثنائية.
وتعترف ستاين أن بيكاسو ربما كان فرنسيا أكثر من كونه إسبانيا، غير أن بلاده الأصلية ظلت يقظة بألوانها في داخله فهي كانت ذات "ألوان شرقية".
وتضيف: "كل شيء إسباني ترك أثره في بيكاسو، لذلك كان يقول (مهما تكن إسبانيا أحبها)، وتدريجيا تضاءل داخله أثر العامل الفرنسي وحضور تولوز لوتريك، وعاد إلى شخصيته الحقيقية كرسام إسباني يفرغ دائما نفسه".
وتتابع: "من الصعب النظر لمسيرته كمسار خال من التحولات، لأنه انتقل من المرحلة الزرقاء إلى المرحلة الوردية الملونة إلى التكعيبية إلى الوردية الثانية التي جاءت من تأثير حياته في إيطاليا، وكل ذلك جاء بيسر ودون أعباء كبيرة مكتفيا فقط بتغيير طريقة العيش ليولد فنيا من جديد".
وتسترسل: "كان يؤمن أن المرء يرى ما يراه والباقي إعادة تكوين في الذاكرة، ولهذا كانت تكعيبية بيكاسو جهدا لصنع صورة من هذه الأشياء الظاهرة، وكانت النتيجة مربكة له وللآخرين، لذلك أيضا ظل الفن الأفريقي رفيقا دائما له، وبفضله مارس النحت ليرتاح الرسام بداخله قليلا، وفي كل الأحوال استطاع رؤية أشياء لم يدركها سواه، فقد رآها وحده وأظهرها كمبدع امتلك مكانة المتقدم في جيله الذي كان يرغب في إخلاء النفس تماما".
وترى جيرترود ستاين أن وجود الخط في لوحات بيكاسو جاء لانخراطه في التكعيبية وانعكاسا لنزعته الشرقية وإدراكه لجمالية الفن الإسلامي المعتمد على الزخرف والخط والتجريد، وهذا بحكم أصوله الإسبانية التي أظهرت له اختلاف المخيلة الإسبانية عن الخيال الأوروبي.
ومع اندلاع الحرب الأهلية في إسبانيا (1936 - 1939) والثورة التي جاءت بعدها، رسم لوحته الشهيرة "الجورنيكا" التي استوحاها من قصف جرنيكا، حين قامت طائرات حربية ألمانية وإيطالية مساندة لقوات القوميين الإسبان بقصف المدينة في 26 أبريل/نيسان 1937.