قرار غلق مكتب منظمة التحرير سيفتح الباب أمام تساؤلات تتعلق بالتعامل الرسمي مع المنظمة في الولايات المتحدة والاعتراف الأمريكي بها.
تدرك الإدارة الأمريكية أن السلطة الفلسطينية لن تتراجع في موقفها باستئناف الاتصالات السياسية والدبلوماسية معها إلا من خلال توسيع إطار عملية الوساطة لتشمل أطرافا آخرين، أو تجديد صيغة اللجنة الرباعية، وفي أقصى الخيارات العودة إلى صيغة ثنائية (أمريكا+روسيا)، كما بدأت عملية التسوية العربية الإسرائيلية في مدريد مطلع التسعينيات.
سيكون أمام الجانب الفلسطيني إما الاستمرار في مخطط التصعيد المقابل رغم تكلفته السياسية العالية، والتي قد تكلف السلطة الفلسطينية الكثير، وإما التحرك الحذر والمرحلي، وهو خيار ستكون تداعياته أخطر على مسارات الحركة الفلسطينية، سواء في الأمم المتحدة أو خارجهاأولا: جاء قرار الإدارة الأمريكية بغلق مكتب منظمة التحرير في واشنطن في توقيت له دلالاته، خاصة مع قرب انعقاد اجتماعات الجمعية العامة في الأمم المتحدة، ومشاركة الرئيس محمود عباس في فعالياتها، ومن ثم فإن القرار الأمريكي يوجه رسالة مهمة وبليغة للجانب الفلسطيني بضرورة مراجعة مواقف السلطة إزاء الإدارة الأمريكية، وإلا فإن مخطط حرث الأرض تجاه السلطة الفلسطينية بأكملها وإزاء الرئيس محمود عباس شخصيا سيكون مطروحا، خاصة أن المخطط الفلسطيني واضح؛ وهو العمل على استبعاد التواصل الأمريكي، والقبول اضطرارا بالوساطة الأمريكية في ملف التسوية إلا في سياق سياسي دولي جديد، ومن خلال دور مباشر لبعض الأطراف الدولية بهدف الضغط على الجانب الأمريكي وعدم انفراده بملف التسوية، أو تقديم شيك على بياض للمفاوضين الأمريكيين الذين جاءوا للمنطقة بأطروحات اقتصادية وليست سياسية وفي غزة وليست الضفة.
ثانيا: يجب تفهم قرار غلق مكتب منظمة التحرير في واشنطن الذي سبقه سلسلة من القرارات الخاصة بقطع المساعدات الأمريكية عن السلطة الفلسطينية، والبدء تدريجيا في تقليص المساعدات المقدمة للوكالة الدولية الأونروا بهدف غلق باب ملف حق العودة، وتنفيذ نص قراري 194 و194، وهو الأمر الذي يعني أن الإدارة الأمريكية لديها عدد من الإجراءات السلبية تجاه السلطة الفلسطينية، خاصة أنها سعت بالفعل إلى دفع السلطة الفلسطينية لحافة الهاوية بإجراءات تتعلق بفتح الباب أمام تصعيد قيادة بديلة جماعية، والتلويح بفرض المقاطعة على الرئيس محمود عباس، ودفع بعض الأطراف الأخرى للضغط على السلطة الفلسطينية، وهو ما فشلت فيه واقعيا في ظل موقف فلسطيني ثابت يلقى قبولا دوليا من بعض الأطراف مثل الصين وفرنسا وروسيا.
ثالثا: إن تحرك الجانب الفلسطيني في إطار فتح ملف التعامل الدولي عبر المحكمة الجنائية الدولية، ومعاقبة بعض القادة الإسرائيليين مما شاركوا في حروب غزة الأخيرة يشير فعليا إلى أن الجانب الفلسطيني لن يتراجع بل هو ماض في مساره، وهو ما يزعج بالفعل الجانبين الأمريكي والإسرائيلي، ويقر بوجود مخاوف حقيقية حال الاقتراب من ملف الوصول إلى المحكمة الجنائية، وهو ما سيدفع أيضا الإدارة الأمريكية ومن وراؤها إسرائيل للإعلان عن رفض قضاء المحكمة الجنائية وأحكامها، خاصة أن الولايات المتحدة ليست عضوا في النظام الأساسي للمحكمة، ومن ثم ستعوق أي خطوة راهنة أو محتملة من المحكمة الجنائية، وستمارس مخطط تخويف وتهديد كامل إزاء القضاة الدوليين، وستمنع دخولهم واشنطن، خاصة إذا فتحوا ملف ممارسات الجنود الأمريكيين في حروبها في العراق وأفغانستان، ومن ثم فإن الموقف الأمريكي سيكون أيضا تصعيديا في كل الأحوال.
رابعا: سيفتح قرار غلق مكتب منظمة التحرير الباب أمام تساؤلات مهمة تتعلق بالتعامل الرسمي مع منظمة التحرير في الولايات المتحدة، والاعتراف الأمريكي بمنظمة التحرير باعتبارها الممثل الرسمي للشعب الفلسطيني، ومدى عمل الإدارة الأمريكية على مراجعة موقفها من السلطة الفلسطينية، وإسقاط كل ما له علاقة بالمكون القانوني والسياسي لمنظمة التحرير، وهو الأمر الذي يعني عودة الأمور إلى ما قبل إنشاء السلطة، خاصة أن هذا الإجراء سيدفع إسرائيل لاحتمال إسقاط اتفاقيات أوسلو وباريس المنظمة لعمل السلطة، وممارساتها السياسية والقانونية على الأرض، وسيقر باستراتيجية إسرائيلية إقصائية واستبعادية مما يعني أن إسرائيل ستكون طرفا مباشرا في حال الوصول للخيار الصفري، وهو إسقاط أوسلو رسميا والقبول بالحد الأدنى من التنسيق الأمني، ولو بصورة غير مباشرة، خاصة أن عدم وجود سلطة على الأرض معترف بها تعني الفوضى المباشرة وتكليف إسرائيل خسائر سياسية وأمنية كبيرة، وقد تتجدد المواجهات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي دون ضوابط أو معايير، ولا شك أن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية ترتب لليوم التالي لهذا الأمر من خلال ما قامت به من إجراءات احترازية.
خامسا: إن الخوف الحقيقي إسرائيليا من استمرار المشهد التصعيدي للسلطة الفلسطينية على الأرض مما يدفعها لانتظار ما تقوم به الإدارة الأمريكية من إجراءات لن تقتصر على غلق ملف مكتب منظمة التحرير، وإنما سيمتد للبدء في معاقبة قيادات في السلطة، ومنع تنقلهم والحجز على ممتلكاتهم (إجراء أمريكي مكرر)، والعمل على إسقاط الرئيس عباس ونزع شرعية الاعتراف الدولي بالسلطة، مع الحذر بعدم الإقدام على إسقاط السلطة لحين انتظار القادم فلسطينيا، وهو ما يتحسب له الإسرائيليون جيدا في ظل مخطط إسرائيلي موضوع سلفا، والبديل انتظار عودة الرئيس محمود عباس عن مواقفه بدفع بعض الشخصيات المقبولة أمريكيا للبدء في حوارات غير معلنة وغير رسمية، كرسالة بإمكانية القبول ببعض الأفكار الأمريكية، وإما بدفع بعض الأطراف خاصة فرنسا للقيام بدور تمهيدي، وقد يأخذ الجانبان الإسرائيلي والأمريكي بعض الوقت، ولحين انتهاء انتخابات التجديد النصفي للكونجرس، وانتهاء مشكلات الرئيس ترامب شخصيا مما قد يدفعه لتبني خيارات بديلة في إطار مخطط تبريد المشهد الفلسطيني الإسرائيلي وهو رهان فاشل مسبقا، لأن الجانب الفلسطيني لن يقبل بأنصاف الخيارات، خاصة أن الرئيس محمود عباس لن يقدم على تنازلات حقيقية، وقد يقبل ببعض الأفكار الأمريكية الإسرائيلية لجس النبض ليس أكثر، ومن ثم فإن استمرار المشهد الراهن ستحكمه ضوابط الاختيار بين السياسات والتوجهات الراهنة والمتوقعة من كل الأطراف.
سادسا: لا يملك الجانب الفلسطيني سوى التصعيد المقابل، وعدم الانتظار كثيرا إلا بعد أن يذهب الجانب الأمريكي الإسرائيلي لخيارات معلومة سلفا، وهي تصفية القضية الفلسطينية بكل محاورها المعروفة، فبعد القدس ملف اللاجئين وحق العودة، وقد تكفلت إسرائيل بحسم ملف الاستيطان بصورة واضحة بإجراءات من جانب واحد، ومن خلال إجراءات استباقية حقيقية استهدفت طوال الأشهر الأخير تغيير الوضع الراهن والاستمرار في مخطط مصادرة الأراضي واستئناف سياسة البناء لآلاف من الوحدات السكنية، مع تفعيل قوانين سيئة السمعة وليس قانون القومية فقط لفرض الوقائع على الأرض، إضافة للسماح بدخول اليهود وغلاة المستوطنين للصلاة في المسجد الأقصى وإعادة تسليحهم، والرسالة واضحة أن إسرائيل تستثمر في الموقف الأمريكي، ومن ثم فإن مراجعة موقف إسرائيل من أوسلو لن يقف عند التنسيق الأمني، بل سيمتد إلى إجراءات تتعلق بالعلاقات الجديدة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي في الفترة المقبلة، خاصة أن إسرائيل ستعتمد إجراءات أخرى متعلقة بتطبيق فكرة يهودية الدولة، وعدم الاقتصار على الحضور الفلسطيني الحالي في الضفة الغربية بل سيمتد إلى عرب 48، وهو ما سيتركز على مخطط الترانسفير المرحلي في العاميين المقبلين، وفقا للتقييمات الاستراتيجية الإسرائيلية.
سابعا: فعليا أمام السلطة الفلسطينية خيارات محدودة، ومن ثم فإن الرئيس محمود عباس عليه إعادة ترتيب الحسابات والأولويات في الفترة المقبلة، وتجاوز الفكر الراهن فلسطينيا بإجراءات سياسية واستراتيجية استباقية حقيقية، وعدم الارتكان للبدائل المعلومة والتي تدرس الإدارة الأمريكية توابعها وتداعياتها جيدا وستعمل على إحباطها بصورة كبيرة، ومن المؤكد أن إسرائيل تدرك أن الرئيس محمود عباس -رغم كل ما يقال ويتردد إعلاميا وسياسيا- ما زال عنوان الشرعية الفلسطينية والرئيس المعترف به دوليا، وأن كيان منظمة التحرير إطار لدولة قادمة لا محالة رغم كل ما يمارس على الأرض إسرائيليا، ورغم كل ما يتردد بشأن الأفكار الأمريكية بتطبيق فكرة الكونفدرالية التي طرحت أمريكيا وإسرائيليا، وتحفظ عليها الرئيس محمود عباس ووضع شروطا محددة (إقامة الدولة الفلسطينية) أولا قبل أي طرح آخر يشمل إسرائيل والأردن، ومن ثم فإن ذهاب الرئيس محمود عباس لوضع الأراضي العربية تحت الائتمان الدولي والحماية الدولية، واتخاذ إجراءات حقيقية تجاه هذا الخيار سيدفع بالأساس لخيارات محدودة أمام إسرائيل، ولن تستطيع الإدارة الأمريكية إيقاف هذا المخطط في الجمعية العامة تحت صيغة متحدون من أجل السلام، وهي صيغة ستعطي صفة الإلزام لقرار صادر من الجمعية العامة بأغلبية الثلثين شأنه شأن قرار صادر من مجلس الأمن.
إن الرسالة هنا أن الإدارة الأمريكية التي باتت تسعى لتقويض دعائم التنظيم الدولي، وإسقاط منظماته ووكالاته المتخصصة تباعا على أساس أنها تكلف الموازنة الأمريكية الكثير من الأموال التي يدفعها المواطن الأمريكي، ولا تخدم السياسات الأمريكية، ومصالحها في العالم سيدفعها لتهديد الجانب الفلسطيني ليس في المحكمة الجنائية، وإنما في أي وكالة أو منظمة أخرى وقد انسحبت مسبقا من اليونسكو، وبالتالي سيكون أمام الجانب الفلسطيني إما الاستمرار في مخطط التصعيد المقابل رغم تكلفته السياسية العالية، والتي قد تكلف السلطة الفلسطينية الكثير، وإما التحرك الحذر والمرحلي، وهو خيار ستكون تداعياته أخطر على مسارات الحركة الفلسطينية سواء في الأمم المتحدة أو خارجها، وسيبقى السؤال مطروحا ماذا عن الموقف العربي تجاه الممارسات الأمريكية والمخططات الإسرائيلية تجاه ما يجري لسلطة معترف بها دوليا على جزء من أراضيها؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة