النظر للمستقبل وتوقع مجرياته وأحداثه، مهمة شديدة الصعوبة وتحتاج إلى قدر كبير من الدراسة للماضي والحاضر والتأني في استخلاص المؤشرات منهما، بما يفضي إلى توقعات أكثر دقة وواقعية لما يمكن أن يجري في المستقبل.
وإذا تعلق الأمر بالقضية الفلسطينية فإن مؤشرات مهمة أفرزها نحو قرن من تطوراتها منذ وعد بلفور عام 1917 وحتى العدوان الإسرائيلي الوحشي الجاري حالياً على غزة، سيكون لها بالقطع انعكاساتها على تطورها في المستقبل.
وأولى هذه المؤشرات هو البقاء المادي والواقعي للشعب الفلسطيني، بغض النظر عن عدم امتلاكه الكيان الطبيعي الذي يجب أن يضمه، أي الدولة.
فحسب المصادر الفلسطينية الرسمية والأممية يزيد عدد الشعب الفلسطيني حالياً حول العالم على 14 مليون فرد، منهم نحو 5.4 مليون يعيشون في الضفة الغربية وقطاع غزة، ونحو 1.8 مليون ضمن حدود دولة إسرائيل، وما يقارب 7 ملايين فلسطيني يعيشون في الشتات، منهم 6.4 مليون في الدول العربية ونحو 770 ألفا في الدول الأجنبية.
وبهذه الأعداد، يكون الشعب الفلسطيني الذي احتلت أجزاء أراضيه مرتين خلال 20 عاماً، مرة عام 1948 والأخرى عام 1967، ومر خلال هذه العقود الطويلة بأقسى الأوضاع المعيشية والصحية والإنسانية، لم يصمد أمامها فقط، بل زاد عدده نحو عشر مرات منذ عام 1948، وحافظ على قسماته المشتركة وهويته الواحدة، على الرغم من استشهاد أكثر من 100 ألف شخص منه خلال هذه الفترة وجرح مئات الآلاف الآخرين، واعتقال السلطات الإسرائيلية لما يقارب المليون فرد منه منذ عدوان 1967 فقط.
والمؤشر الثاني المهم، هو أن طاقة المقاومة لدى الشعب الفلسطيني لم تخب قط طوال تلك السنوات، واتخذت صوراً وأشكالاً متنوعة خلال مراحلها المتعاقبة، وارتدت في كل مرحلة منها أثواباً فكرية وسياسية متعددة، ولكن جوهرها ظل ثابتاً: رفض ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي لأراضيهم والإصرار دوماً على الحصول على حقوقهم الوطنية المشروعة.
وعلى الرغم من التفرق والاختلاف الذي طرأ في مرات عديدة على علاقات ما بات يسمى "فصائل المقاومة" الفلسطينية في عديد من المراحل، إلا أن كلها ظلت بعيدة تماماً عن جوهر الهدف الوحيد لهم جميعاً، وهو تحرير أرضهم والحصول على حقوقهم المشروعة وعلى رأسها دولتهم الفلسطينية المستقلة.
ويرتبط المؤشر الثالث بالسياق الإقليمي والعالمي المحيط بالقضية الفلسطينية طوال سنوات ثلاثة أرباع القرن، الماضية.
فعلى صعيد العالم العربي وقطاعات واسعة غالبة من العالم الإسلامي، ظلت هذه القضية تحتل مكانة مركزية في الوعي الشعبي العام وجزء متغير بحسب المرحلة من اهتمامات الحكومات والنظم السياسية في العالمين.
وبالرغم من التراجع الواضح في هذه المكانة وتلك الاهتمامات في بعض من هذه المراحل، فمن الواضح منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة في السابع من أكتوبر، أنهما قد بلغا ذروة غير مسبوقة في هذين العالمين، وهو ما حدث أيضاً للمرة الأولى على المستوى العالمي، خصوصا في دول النطاق الغربي، الأمريكي-الأوروبي.
ويرتبط المؤشر الرابع والأخير بالمؤشر السابق، حيث عرفت حكومات العالم الغربي، وبوضوح ملفت في الشق الأوروبي منه، تغيرات لم تحدث قط طوال سنوات القضية الفلسطينية، في مواقفها المعلنة فيما يخص إسرائيل التي طالتها انتقادات وتنديدات لم تعرفها طوال تاريخها، بينما حظيت الحقوق الفلسطينية الغائبة خصوصاً حق الدولة المستقلة، بتأييد لم يسبق له مثيل على الإطلاق.
تلك المؤشرات، وغيرها، هي التي تضيء لنا محاولة النظر لمستقبل القضية الفلسطينية، سواء على المدى القصير أو المتوسط أو البعيد.
فمن المرجح وفقاً لها جميعاً معاً، أن يزداد إلحاح ضرورة حل هذه القضية بصورة عادلة، تتناسب مع المعطيات المادية لتطور وبقاء الشعب الفلسطيني، ومع إصراره على التمسك بحقوقه المشروعة عبر كل أشكال المقاومة، ومع التنامي غير المسبوق عربياً وعالمياً في الشعور بالمسؤولية عن تحقيق الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
لقد صعدت القضية الفلسطينية خلال الشهور الأربعة الأخيرة إلى حيث لم تكن قط من قبل، وهو ما يشير إلى أن المستقبل بكل آماده لن يعرف لها هبوطاً عنه، ولو حدث سيكون طفيفاً، وأن الشهور والسنين القادمة لن تكون أبداً على شاكلة العقود الطويلة السابقة التي مرت بها، وأنه بالرغم من أية عقبات أو صعوبات كبيرة أو صغيرة متوقعة قادمة، فإن حلها لن يغيب طويلاً.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة