سيناريو بقاء الأوضاع على ما هي عليه فلسطينيا سيكون مرشحا بقوة للاستمرار في ظل المزايدات الإعلامية والسياسية.
يحصل الجانب الفلسطيني من بين شعوب العالم على درجة متقدمة في إضاعة الفرص السياسية التي توافرت له من أجل أن يدخل في تفاوض جاد وحاسم منذ معاهدة كامب ديفيد، ومرورا بالفرص التي سنحت في مرحلة التسعينات، والتي بدأت بمدريد وأوسلو وغيرها، والتي كان يمكن أن تحرك المشهد الفلسطيني، وتدفع لتحقيق مكاسب حقيقية ومباشرة للشعب الفلسطيني ليمارس ولأول مرة سيادته على جزء من الأرض الفلسطينية التاريخية، ويتجاوز ما جرى سياسيا واستراتيجيا في المخططات الإسرائيلية في ملف الاستيطان، وإغلاق ملف حق العودة مرورا بملف القدس وترسيم الحدود، وقد خسرت القضية الفلسطينية الكثير نتيجة للصدامات بين الفصائل الفلسطينية، وبين حركتي فتح وحماس على وجه التحديد، وتتالت الخسائر الفلسطينية من استمرار الوضع الراهن في القطاع والضفة الغربية مما أوجد شعبا هنا وشعبا هناك، ومكن هذا الوضع الحكومات الإسرائيلية من الاستثمار في المشهد الفلسطيني، وكان الإنجاز الأكبر لتل أبيب في ضم القدس عاصمة موحدة لإسرائيل، ترجمة لمخطط تصفية القضية الفلسطينية بالكامل، والبدء في حرث الأرض تحت أقدام السلطة الفلسطينية، وبدأ مخطط دفع السلطة الفلسطينية لحافة الهاوية ووقف المساعدات وإغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن، وتتالت الخطوات المشابهة وتزامن معها دخول الأطراف الإقليمية العابثة من تركيا التي سعت لتوظيف الأوضاع في القدس، ودخلت تحت عباءة الدعم التركي والمنظومات المانحة والمؤسسات الاقتصادية وحماية التراث الإسلامي، وغيرها من التوجهات الإعلامية للرئيس التركي، والذي تعامل مع غزة على أنها بلدية تركية، يمكن أن يوظفها لمصلحته وفي نفس التوقيت الذي دخل في شراكة سياسية واستراتيجية حقيقية مع إسرائيل من خلال تعاون استراتيجي وسياسي غير مسبوق لم ينافسه فيه أحد، ونجح الجانب التركي في تسخير الصف الفلسطيني بصورة كبيرة وفي ظل دعم غير مسبوق على المستوى الشكلي، وإقامة مشروعات في بيت حنانينا وغيرها، ظل هدفها الاقتصادي تحقيق أعلى معدلات الربحية وليست الخدمية، أما قطر فإن سفيرها محمد العمادي رئيس لجنة اعتمار القطاع فإنه حاضر يوميا وأعضاء اللجنة في اتصالات ولقاءات مع المسؤولين الإسرائيليين، كما أن رئيس الموساد ومسؤولين أمنيين يزورون قطر بشكل مستمر منذ عدة سنوات وما زالوا متواصلين في ملف الدعم القطري، وأجروا اتصالات بشأن تطوير الوجود القطري في قطاع غزة، وقد ثبت بأن قطر تحول دورها الخدمي لسكان القطاع لدور استثماري حقيقي، بعد أن نجحت السياسة القطرية في تكريس سياسة الفصل الراهن، والممتد بين القطاع والضفة الغربية، وعملت على تنميته بصورة واضحة في إطار استثمار حقيقي للخلاف، في إطار الحفاظ على مصالحها الممتدة.
أما إيران فقد وظفت حركتي حماس والجهاد الفلسطيني للتحقيق مصالحها، وعملت على تطوير وتسليح الحركتين في إطار مسلسل مفتوح لن ينتهي، وما تزال المواجهات قائمة بين الفصائل المنضبطة والفصائل غير المنضبطة التي تعمل تحت غطاء حركة حماس عند الضرورة، والرسالة أن الأطراف الإقليمية تعمل وتتحرك في إطار الحفاظ على مصالحها واستثمار القضية الفلسطينية في كل خطوة، وهو ما برز طوال السنوات الأخيرة، واتضحت صوره في استمرار الانقسام الفلسطيني المستمر، والتي منعت ظهور أي فرص في التقارب أو التوافق في الوقت الراهن، برغم الاتصالات الشكلية التي تمت عقب الإعلان عن معاهدة السلام الإماراتية الإسرائيلية .
ومن المؤكد أن سيناريو بقاء الأوضاع على ما هي عليه فلسطينيا سيكون مرشحا بقوة للاستمرار في ظل المزايدات الإعلامية والسياسية التي يتبناها الجانب الفلسطيني، ويحرص على تصديرها لكل من يقترب من ملف التعامل مع إسرائيل، ولكن وفقا لواقعية سياسية حقيقية تتحدث بها الدبلوماسية الإماراتية في مناخ عربي معقد، وانقسام عربي حول التعامل مع إسرائيل في وضعها الراهن، وهو أمر سيرتبط بما نريده من إسرائيل في المدى المنظور، خاصة وأن صيغ الأرض مقابل السلام والأمن مقابل السلام، ومرجعيات عملية السلام وخاصة نص قراري 242 و338 ما تزال قائمة ومطروحة ولم يسقطها أحد، وهو ما تدركه إسرائيل بصرف النظر عن قبولها أو رفضها للمبادئ التي يجب أن يتم التفاوض بشأنها بين العرب وإسرائيل، ومن الواضح أن الفرص الكبيرة التي أضاعها الجانب الفلسطيني منذ سنوات طويلة ما تزال تلقي بتداعياتها على ما يجري بدليل استمرار نفس السياسات الفلسطينية من حيث تكرار الخطاب الإعلامي والسياسي، وإعادة المطالبة بضرورة التفاوض على أرضية الرباعية الدولية، والتي تطرحها السلطة الفلسطينية في إطار عدم الاعتماد على الوسيط الأمريكي كوسيط نزيه بمعنى الكلمة .
إن ما قامت به دولة الإمارات العربية المتحدة من محاولة لإعادة الأمور لنصابها الطبيعي والعمل علي إعادة المسار وامتلاك أوراق ضاغطة، يعد بمثابة ضربة للدول الساعية لتحقيق مكاسب من وراء القضية الفلسطينية مثلما فعلت وتفعل الأطراف القطرية والإيرانية والتركية والتي وظفت القضية الفلسطينية لمصالحها، وجنت من ورائها الكثير من المنافع، وقد آن الأوان لكي يمنح الشعب الفلسطيني الفرصة لتحقيق حقه في تقرير مصيره، ولم تطلب دولة الإمارات العربية أن تفاوض باسم الشعب الفلسطيني أو التحدث باسمه، وهو نفس الاتهام الذي وجه للرئيس الراحل أنور السادات عندما بدأ بالفعل مسار المفاوضات مع إسرائيل، بل ووضع لهم علما ومقعدا في المفاوضات، وكان ذلك قبل توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل .
وبعد سنوات طويلة من عمر هذه المعاهدة الشهيرة خرج قيادي فلسطيني كبير ليقول وهو في طائرة الوفد الأردني الفلسطيني المشارك في مؤتمر مدريد مطلع التسعينات، أن في الصيغة العربية لمعاهدة كامب ديفيد الكثير من المكاسب والإيجابيات .. والرسالة أن الفلسطينيين لم يطالعوا ما جاء في المعاهدة ورفضوها مقدما.
إن السياسة فن الممكن والمستحيل، وتجربتا مصر والأردن في التفاوض هما اللتان توجتا في الحالتين بمعاهدة كامب ديفيد ووادي عربة، وكان يمكن أن تستمر تجربة أوسلو التي تنصلت من بنودها لاحقا الحكومات اليمينية، واعتبروها غير واقعية، واستمر مخطط الاستيطان في مناطق "ج" برغم حرصهم الكبير والمستمر على استمرار التنسيق الأمني والذي هدد الرئيس محمود عباس بإيقافه رسميا بعد قرار اللجنة المركزية لمنظمة التحرير، ومع ذلك لم ينفذ فعليا .
إن خطوة دولة الإمارات العربية المتحدة في توقيع معاهدة سلام مع إسرائيل يجب أن توضع في منظومتها الطبيعية، وتفهم دلالاتها السياسية طويلة الأجل، والتي ترتبط بالتطورات الجارية في الإقليم بأكمله، وفي القلب منه إيجاد مسارات جديدة لحل الصراع العربي الإسرائيلي، هو أعقد صراعات العالم .. صوت العقل يجب أن يكون ماثلا أمام الجميع، وليس صوت المشاعر والعواطف والمزايدات، التي لن تفيد، بل سيكون لها تداعياتها على ما يجري، وكي لا يكون الشعب الفلسطيني دائما الخاسر الأول والأخير، في كل ما يجري من حوله .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة