وقف ضد القانون غالبية الذين يحاولون إخراج العراق العربي من نفق الطائفية والهيمنة الإيرانية التي يصب هذا القانون في مصالحها.
إقرار قانون الحشد الشعبي في العراق ينذر بمرحلة جديدة في «الإصفاف الطائفي»، ويشكل تهديداً مباشراً لمسؤولية الدولة الوطنية التي تتساوى فيها الفرص والحقوق والواجبات وفق مبدأ المواطنة وليس بحسب الانتماء الطائفي أو العرقي. وإذا فرض على العراقيين فلن تقف مخاطره عند حدود بلادهم. وعبر العراقيون عن مخاوفهم من هذا القانون وتفاوتت ردود أفعالهم، تأييداً ورفضاً، بحسب الانتماء الطائفي، ففي الوقت الذي رحبت، بالقرار، القيادات الشيعية المتحكمة في الشأن العراقي، في هذه المرحلة، سمعنا أصواتاً وطنية أخرى متنوعة ترفض القرار وتحذر من نتائجه، وترى فيه ابتعاداً عن مفهوم «الشراكة» الذي تفاهمت حوله الفعاليات لأجل أن يحفظ للعراق وحدته ويبقي أمل العودة إلى الدولة المدنية التي تحمي حقوق كل المواطنين.
حاول «الطائفيون» تبرير القانون باعتباره تقديراً لمن ضحى في مواجهة الإرهاب، فقد قال رئيس الوزراء العبادي: «نبارك للشعب العراقي ولأبطال الحشد الشعبي إقرار قانون الحشد الحشد، ونجدد التأكيد، مرة أخرى، على أهمية هذا القانون الذي أكدنا أكثر من مناسبة أهمية إقراره، فهؤلاء المقاتلين الأبطال من شباب وكبار السن يجب الوفاء بتضحياتهم التي قدموها، وهو أقل ما نقدمه لهم». وناصر هذا الموقف وزير الخارجية إبراهيم الجعفري بقوله: «إقرار قانون الحشد انتصار للشعب وللقيم العسكرية»..(!!!)
ووقف ضد القانون غالبية الذين يحاولون إخراج العراق العربي من نفق الطائفية والهيمنة الإيرانية التي يصب هذا القانون في مصالحها، لأنه يعد امتداداً لحرسها الثوري، فقال صالح المطلك رئيس ائتلاف العربية: «تمرير قانون الحشد الشعبي أنهى حلم الدولة المدنية بالعراق»، وساند موقفه أسامة النجيفي نائب الرئيس رئيس كتلة متحدون بقوله: «نرفض أي مفاوضات، بعد اليوم، لما يسمى «بالتسوية السياسية»، ولن نناقشها على الإطلاق وليس من حق أحد تقرير مصير البلد بتشريع قانون دون الرجوع إلى مبدأ الشراكة». وعلى رغم الضغوط المتضافرة من أطراف كثيرة، والقول إن ظروف فتوى المرجع السيستاني، التي تأسس بموجبها الحشد لم تعد موجودة بعد القضاء على «داعش»، إلا أن إمكان العودة عن القانون بات ضعيفاً، لأن القانون يأتي في سياق ترتيبات مبكرة وخطط واضحة تهدف إلى تشكيل قوى «عقائدية» متحررة من عقيدة الجيش الوطني الذي تحاول الدولة العراقية أن تجعله لجميع الوطن وتبعده، قدر المستطاع، عن ارتكاب أعمال طائفية ضد فئات المواطنين كلها. والحشد الشعبي امتداد للميليشيات الحزبية القائمة على عقيدة طائفية مشبعة بروح «المظلومية» والانتقام، وما ارتكبه من جرائم تجعله خطراً على العراق. وسبق أن قال عنه الرئيس الأسبق لوكالة الاستخبارات المركزية الجنرال ديفيد بتريوس: «الخطر الحقيقي على استقرار العراق والمنطقة على المدى البعيد يأتي من الحشد الشعبي المدعوم من طهران». ويبدو أن إقرار القانون في هذه المرحلة يؤكد الرأي القائل إن محاربة «داعش» لم تكن إلا «غطاء» لتشكيل هذه القوة الموازية لمؤسسات الدولة وتحريرها من القيود التي تفرضها القوانين، و«تفصيل» قانون خاص يمكّنها من تحقيق أهدافها الراهنة ويحفظ لها «حرية ومرونة» الحركة في المستقبل. القانون أقر في الوقت الذي تتضافر الجهود المحلية والإقليمية والدولية للقضاء على تنظيم داعش الإرهابي، ويتجه الحراك المتسارع لدفع الأحداث في سورية إلى نهاياتها، و«تجهيز» المنطقة كلها للترتيبات النهائية، ما يعني، منطقياً، تراجع حال التوتر والتقاط الأنفاس والعودة إلى العقل بحثاً عن حلول ومعالجة الأخطاء المركبة وإصلاح ما أفسدته الحروب والنزاعات الطائفية والعرقية، والتوجه نحو «تجسير» المسافات بين الدول وإزالة أسباب سوء الفهم. في هذه الأجواء كان الأولى أن تتراجع النزعة الطائفية وأدواتها الميليشياوية، لكن هذا لم يحدث، وبادر «الطائفيون» إلى الدفع بقانون الحشد إلى البرلمان لتمريره خوفاً من فوات الفرصة وغلبة الصوت الوطني بعد التحرر من خطر «داعش».
وخطر «مأسسة» الميليشيا الطائفية سيغرق العراق في دوامة تنازع القوة ويدفع بقية الطوائف إلى العمل على اكتساب قوتها لحماية وجودها خارج «مسؤولية الدولة»، وحينها سيتحول العراق إلى بلد تحكمه «ميليشيا مسلحة» تستمد قوتها من المتعاطفين معها في الداخل والخارج، وحينئذ تصبح الدولة هيكلاً خالياً من معانيه وفاقداً أسباب أداء وظيفته، ولن يقف الخطر عند العراق وحده، بل سيمتد إلى دول الجوار تأثراً بما يجري أو خوفاً من الأخطار الناتجة منه. ومن أبرز ما قد يترتب على «تقنين» الميليشيات العقائدية في العراق: ترسيخ الطائفية وإكسابها قوة القانون لفرض أرادتها على المختلف، والقضاء على فكرة الخروج من الأخطاء التي ارتكبت في الماضي ومحاولة العودة إلى فضاء الدولة المدنية التي تقوم فيها مبادئ التكليف والمحاسبة على مفهوم المواطنة.
وهذه الخطوة ترسخ ثقافة «الميليشيا» في المجتمع العراقي ويدفع إلى تنامي هذه الظاهرة في المنطقة كلها، ما يعمق الفوضى ويضعف وظيفة الدول ويزيد من الفروق، وتاريخ الحشد الشعبي وظروف نشأته وارتباطه الخارجي بإيران، يعمق تدخلها في الشأن العراقي ويزيد من روح «الطائفية الانتقامية». وهذا الحشد، على افتراض أنه كان مفيداً، في مرحلة مواجهة الإرهاب سيشكل عبئاً على الشعب العراقي بأعداده الكبيرة وولائه العقائدي السياسي سيفسد الحياة السياسية ويحولها إلى «مراكز قوى» تتصارع ويجفف منابع الثقافة المدنية و«يعسكر» المجتمع ويشجع الطوائف الأخرى إلى خلق «حشودها» لحماية نفسها، وحينئذ يصبح العراق دولة ميليشيات تحكمها «عصابات» تعمل لمصالح مؤسسيها بغض النظر عن مصالح الوطن. والسؤال المحوري: هل تستطيع القوى السياسية العراقية «ضبط» هذا الحشد في قانون يجعله تحت سيطرة الدولة أم أن القوى الحاكمة تريده قوة تحركها وقت ما تشاء خارج نظام الدولة؟ وماذا عن موقف الدول المجاورة مما يجري في العراق؟
*نقلا عن الحياة
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة