هذه التغيرات المتسارعة شكلت وجها جديدا للخارطة السورية، وأعادت رسم مناطق النفوذ والسيطرة للأطراف المتنازعة،
التطورات الأخيرة المتسارعة في الساحة السورية وضعت على الطاولة أمام عموم العالم عدة تصورات لما كان يحدث هناك، ولعل الإعلان الأخير عن اتفاق لوقف إطلاق النار بين الجانبين التركي والمقاتلين الأكراد بوساطة أمريكية، ومع وصول الجيش السوري إلى شمال البلاد وشرق الفرات وسيطرته شبه الكاملة على عدد من المدن الحدودية الكبرى والمهمة بالتعاون والاتفاق بين الجانبين الروسي والتركي، قد توحي هذه التطورات بدلالات ربما لا تكون مجرد أوهام، أن ما جرى في سوريا كان على ما يبدو مخططا له مسبقا، أو ربما أن هناك من استغل الموقف بحنكة عسكرية ودهاء سياسي ليحقق أهدافه.
هذه التغيرات المتسارعة شكلت وجها جديدا للخارطة السورية، وأعادت رسم مناطق النفوذ والسيطرة للأطراف المتنازعة، إلا أن أبرز المعالم على الأرض تتمثل بتوسيع الجيش السوري سيطرته وانتشاره على عدة جبهات، خاصة ضمن المناطق التي خضعت لسنوات لقوات سوريا الديمقراطية، التي كانت تسيطر على مساحة تقدر بنحو ثلث مساحة الدولة السورية
عودة إلى بداية الإعلان التركي بدء العملية الدامية التي أطلق عليها "نبع السلام"، نجد أنها جاءت بعد الإعلان الأمريكي الانسحاب من مواقع انتشاره ووجوده في الشمال السوري، ضمن المناطق التي كانت تحت السيطرة الكردية بالكامل، وهو ما حصل في حينها بشكل مفاجئ للجميع وكان تعليل الأمريكيين لانسحابهم أن تنظيم داعش الإرهابي قد انتهى والأمن استتب، وأن الفصائل الكردية هناك قادرة على حفظ الأمن وإدارة شؤون مناطق سيطرتها، ثم يلي ذلك بثلاثة أيام إعلان الجانب التركي بدء عمليته العسكرية واسعة النطاق على حدوده الجنوبية شرق الفرات حتى توغل إلى الأراضي السورية، وبدأ بالتهجير والتدمير والقتل مستخدما المليشيات التي تدعمها أنقرة في إحكام ضربته ضد الفصائل الكردية التي لم تعتدِ أو تتقدم طوال فترة سيطرتها من الحدود التركية.
الهجوم التركي الذي ادعى فيه أردوغان أنه تم بعد الاتصال مع الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، وإبلاغهم نواياه وتفاصيل عمليته العسكرية التي بدأها في الأراضي السورية، بدا منذ انطلاقه عشوائيا ومتسرعا، وواجه دفاعا شرسا وقتالا مستميتا من الجانب الكردي -غير المزود بأسلحة متقدمة-، ورغم التفوق العسكري التركي الكبير لم يتمكن من التقدم إلا بعد استخدام المليشيات المسلحة الموالية لتركيا في مهاجمة المدن والقرى الكردية، ما شكل ضغطا هائلا على عدة جبهات أمام الفصائل الكردية، التي وجدت نفسها تقف وحيدة في وجه هذا الهجوم الكثيف دفاعا عن مناطق سيطرتها.
ومع استمرار الهجوم التركي والمليشيات التابعة له وازدياد حدة الاشتباكات ضد الفصائل الكردية، طلب الجانب الكردي ممثلا بالإدارة الذاتية الإسناد والدعم من الحكومة السورية، تدخلت على إثره روسيا كوسيط بين الأطراف على الأرض (تركيا-الحكومة السورية-الإدارة الذاتية الكردية) والجانب الأمريكي، لتهيئة اتفاق جاءت أبرز نتائجه إعادة انتشار الجيش السوري على طول الحدود مع تركيا ودخوله إلى عدد من المدن الكبرى التي كانت تحت السيطرة الكردية، منها عين العرب كوباني ومدينة منبج ومحيطها (شمال شرق حلب) وبلدة تل تمر (شمال غرب الحسكة) ومحيط بلدة عين عيسى (شمال الرقة)، كما سيطرت القوات السورية وقوات سوريا الديمقراطية على قاعدة انسحب منها الجنود الأمريكيون قرب عين العرب، بعدما دمر فيها الأمريكيون مخازن للذخائر ومعدات وأسلحة تخلوا عنها في المنطقة.
هذه التغيرات المتسارعة شكلت وجها جديدا للخارطة السورية، وأعادت رسم مناطق النفوذ والسيطرة للأطراف المتنازعة، إلا أن أبرز المعالم على الأرض تتمثل بتوسيع الجيش السوري سيطرته وانتشاره على عدة جبهات، خاصة ضمن المناطق التي خضعت لسنوات لقوات سوريا الديمقراطية، التي كانت تسيطر على مساحة تقدر بنحو ثلث مساحة الدولة السورية، وهي مناطق غنية بالثروات الباطنية على رأسها النفط، كما تشكلت خطوط التماس بين القوات السورية من جهة، والمليشيات المسلحة الموالية لأنقرة من جهة ثانية، أما القوات التركية فعادت لتقف في الصفوف الخلفية، وتوجد بشكل أساسي في المناطق المحاذية للحدود بين البلدين.
الوضع على الأرض في تلك المرحلة تطلب تدخلا أمريكيا من جديد، خاصة مع ازدياد خطورة العملية العسكرية التركية، التي على ما يبدو لم تكن تستهدف الوجود المسلح الكردي على حدودها الجنوبية فقط، بل اتسعت لتطول تهجيرا قسريا للمدنيين وتستهدف القرى والبنى التحتية، والأخطر من ذلك نوايا الجانب التركي التي ظهرت في سعيه للوصول إلى السجون والمعتقلات التي تحتضن أخطر عناصر ومقاتلي تنظيم داعش الإرهابي، ما أثار الشكوك حول نوايا أردوغان الحقيقية بإعادة إحياء التنظيم، خاصة مع انتشار معلومات ووثائق تؤكد الدعم الكبير الذي تلقاه التنظيم من الجانب التركي طوال فترة نشاطه في المنطقة.
وبالموازاة مع الانتقادات اللاذعة التي تعرض لها أردوغان جراء عمليته العسكرية المخالفة في جميع تفاصيلها للقوانين الدولية، تدخلت الولايات المتحدة بقوة، وألزمت أنقرة على توقيع اتفاق يلزم الجانب التركي بإنهاء عمليته العسكرية خلال خمسة أيام، يتخللها انسحاب المقاتلين الأكراد لمسافة ٢٠ ميلا جنوب الحدود التركية السورية، وشمل المنطقة الممتدة بين رأس العين (شمال الحسكة) وتل أبيض (شمال الرقة)، كما تضمن الاتفاق عدم دخول تركيا في عمل عسكري بمدينة عين العرب التي دخلها الجيش السوري، وإعلان الولايات المتحدة أنه لن يكون لها جنود على الأراضي السورية، بالإضافة إلى حماية السجون وحماية الأقليات شمال سوريا، كما نص على التوصل لاتفاق سلمي بشأن المنطقة الآمنة، يضمن أمن أنقرة والأكراد.
أما بنود الاتفاق التي أعلنها كل من الأمريكيين والروس و(الدولة السورية) والأتراك ربما جاءت ملائمة كثيرا لطموحات الجميع ما قبل عملية أنقرة العسكرية باستثناء الإدارة الذاتية الكردية، بمعنى أن الأتراك لطالما سعوا لإقامة ما يسمونه المنطقة الآمنة وإبعاد الفصائل الكردية عن حدودهم وقد حصلوا على ذلك، والروس يرغبون ببسط سيطرة وإعادة نفوذ الدولة السورية على كامل أرضها، ولو بشكل تدريجي لتحقيق الاستفادة القصوى من مواردها وموقعها.. وقد حققوا ذلك، والأمريكيون يرغبون بعودة الأمن إلى المنطقة وكبح جماح التنظيمات الإرهابية على رأسها تنظيم داعش بأقل الخسائر والتكاليف في منطقة مُتخمةٍ بالصراعات، وقد حققوا ذلك، أما عن الإدارة الذاتية الكردية فهنا يأتي دور الدهاء السياسي في تحقيق الأهداف واستغلال الفرص للحصول على مطالبهم المشروعة، وبعد ذلك يبقى الرابح الأكبر من هذا الاتفاق وهم المدنيون العزل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة