بصرف النظر عن مواقف واتجاهات ومواقف الدول المشاركة في قمة المناخ العالمي، فثمة حقائق ستُفرض على ما سيجري عقب انتهاء فعالياتها.
فأولا، هناك استمرار لحالة التجاذب بين الدول الكبرى على تحديد أجندة الاهتمامات المقبلة، في ظل حالة تناقض بين مواقف الولايات المتحدة والصين وروسيا، وأيضا على مستوى الدول النامية، خاصة في إطار منح التعويضات والدعم الذي كان مطلوبا وفق استحقاقات سابقة كانت قد التزمت بها الدول الكبرى من قبل، ومع ذلك لم يستجب أحد، فقد تناقضت الطموحات مع الواقع الراهن، كما ألقت الخلافات السياسية بظلالها على ما جرى بالفعل حتى قبل انعقاد المؤتمر بأشهر عدة، وانعكست في شكل المخرجات، التي تطرح وستفرض نفسها على ما سيلي من تطورات.
لقد جاءت العودة الأمريكية إلى الاهتمام بالمناخ في ظل تحولات مفصلية تجري في منظومة العلاقات الدولية، ومساعي كل دولة لحجز دور متقدم فيما يجري من تطورات تتعلق بمسألة المناخ، وقد تزامن ذلك مع تضاعف الدعوات الموجهة إلى قادة العالم لبذل مزيد من الجهود، وبوتيرة أسرع، للحد من ظاهرة الاحترار، التي تسببت في كوارث مدمرة، بينما ارتفعت حرارة الكوكب بنحو 1.1 درجة مئوية منذ عصر ما قبل الثورة الصناعية، حيث يعيش العالم الآثار المدمرة لاحترار الكوكب، حرائق وفيضانات ضخمة، وصولا إلى موجات حَر غير مسبوقة.
والواقع أن ما يجري ليس إلا البداية، كما حذر العلماء، الذين يقولون إن كل جزء إضافي من الدرجة سيجلب نصيبه من الكوارث الجديدة على الأرض وسكانها.
ثانيا: إن استمرار حالة السياسة في مواجهة حالة الاقتصاد، والحديث عن اتفاقيات كاملة والتزامات محددة، ظل غائبا، حيث تم ترحيل الخلافات إلى المؤتمر التالي، الأمر الذي يؤكد أن السياسة كانت حاضرة، وستظل موجودة، وهو ما يجب التعامل معه بجدية حقيقية وتقبّل ما سيجري من مخالفات ربما تتجاوز الانبعاث الحراري، والتي تم التوافق بعدم مخالفتها سابقا، ومع ذلك تجاوزها الجميع، وليست دولة واحدة هي التي فعلت ذلك، بل سعت دول أخرى للخروج من الالتزامات، التي تم طرحها منذ سنوات وعبر قمم المناخ المتتالية، والتي دشنت إطار تعامل وفق خطط التنمية المستدامة مع ظاهرة المناخ، والحديث المتكرر عن مصادر الطاقة البديلة، الأمر الذي سيظل مطروحا في الفترة المقبلة ولن يتوقف أبدا، وبالتالي سيكون أمام الدول مراجعة سياساتها الراهنة وعدم العمل بمفردها في إطار ما يتم تحديده، في مواجهة المستقبل المروّع، الذي توقعه علماء الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، وكان طرحهم خفض انبعاث الغازات الدفيئة بنسبة 45% بحلول 2030 لحصر الاحترار بـ1.5%، وهو الهدف الأكثر طموحا لاتفاقية باريس للمناخ، والاستمرار نحو تحقيق الحياد الكربوني قرب عام 2050.
وعلى سبيل المثال، تهدف موسكو إلى خفض انبعاث بنحو 80% بحلول عام 2050، لا سيما عبر التخلي تدريجياً عن الفحم كمصدر للكهرباء، واستبدال الطاقة النووية به.
ثالثا: ستظل الخلافات الراهنة على الأولويات، والانتقال بعصر الطاقة التقليدية والقديمة إلى مرحلة أخرى تُعرف بمرحلة الطاقة المتجددة بكل أنواعها، طرحا منشودا في إطار جدول أعمال البرنامج الاقتصادي الدولي، والذي تؤكده مواثيق وأهداف الأمم المتحدة، والذي ترسَّخ في توقيتات محددة ووفق برنامج عمل كامل، ومع ذلك لم يتم العمل به، ومن ثمّ فإن العالم على موعد مع كارثة حقيقية ما لم تتوقف حالة الخروج الجماعي عن التزامات اتفاقيات المناخ، وتوابعها، حيث ستكون المسألة مرتبطة بحالة من التحفظ، وسيكون العالم كله محل اختبار صعب ما لم توضع المحددات والأطر، التي يجب العمل من خلالها في ظل انهيار قواعد التعامل بين الدول النامية، والدول الكبرى والساعية للنمو، خاصة أن قيادة العالم اقتصاديا، سواء من الصين والولايات المتحدة، لا تزال تواجَه بصعوبات حقيقية وتخوّف من حالة كساد متجدد، ولعل تداعيات أزمة كورونا قد ضربت الاقتصاد العالمي بأكمله، مع الفارق في درجة التضرر، وهو الأمر الذي يتطلب بالفعل مراجعة مجمل السياسات الراهنة، التي تحكم العالم سياسيا واقتصاديا، ليس فقط في أزمة المناخ وتحدياتها الكبرى، والتي يمكن أن تكون سببا حقيقيا في الذهاب إلى خيارات صفرية ما لم يتم التوافق بصورة أو بأخرى على التوصل إلى آليات حقيقية في التعامل معها، وبناء منظومة إقليمية ودولية للقفز على ما يواجه العالم من مخاطر حقيقية قد يعجز عن التعامل معها إذا غابت الإرادة السياسية والاقتصادية، والتي يجب أن تعمل لصالح البشرية أجمعها، وليس لدولة أو إقليم واحد.
ولعل التخوف من تسييس ملف اتفاقيات المناخ والتوافق بشأنه يدفع لضرورة العمل على ثوابت ستحكم المنظومة بأكملها، وليس على متغيرات مرتبطة بمواقف وتوجهات الدول الكبرى، التي تراعي مصالحها فقط.
ولعل تجربة دولة الإمارات العربية المتحدة هنا جديرة بالتناول، فهي دولة رائدة انتقلت إلى مرحلة متقدمة في طرح ومعاملة ظاهرة المناخ وما ارتبط بها من قضايا، كما قدمت رؤى متماسكة وناجحة يمكن لدول عديدة الاحتذاء بها والاستفادة من خبراتها العميقة، التي تراكمت طوال السنوات الأخيرة بفضل التخطيط الجيد والرؤية الاستراتيجية، التي وضعتها قيادة الإمارات، فخلال خمسة عشر عاماً ماضية رسخت دولة الإمارات مكانتَها الرائدة في استثمارات الطاقة النظيفة بمبادرات وبرامج عدة، أوصلتها إلى أن تكون الدولة الأولى عربيا التي تشغل محطة للطاقة النووية السلمية، وهي محطة "براكة"، إضافة إلى إنشاء ثلاث من أكبر محطات الطاقة الشمسية في العالم وأقلها تكلفة، وإطلاق أول مشروع صناعي للهيدروجين الأخضر في الشرق الأوسط، انطلاقًا من مساعيها الرامية إلى تعزيز الاستثمارات في مصادر الطاقة المبتكرة.
وقد شهدت دول ومنظمات دولية بنجاح وتميز التجربة الإماراتية وتجاوز ما هو تقليدي في التعامل مع ملف الطاقة والمناخ، وسعيها لتحقيق الحياد المناخي بحلول عام 2050، أي التحول إلى اقتصاد بصافي صفر انبعاثات من الغازات الدفيئة، والتي تعتبر من أخطر الظواهر، التي تشهدها منطقتنا والعالم، بسبب ارتفاع درجات الحرارة الناجمة عن انبعاثات الكربون، لذا تحتاج الأمم المتحدة إلى التفاعل مع مثل هذه التجارب الناجحة، والعمل على نشرها للعالم، باعتبارها من التجارب المتميزة، التي جرت في ملف المناخ المتخم بقضايا أخرى متعددة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة