أربعة عشر قرناً على العلاقة بين الإسلام والمسيحية عرفت أزمنة توتر وحروب، وكذلك لقاءات ومصالحات وتسامحات، شأن كل علاقة بشرية.
تبقى البابوية سلطة وقوة إقناع معنوي حول العالم، فالرجل ذو الرداء الأبيض، وبحسب المؤرخ الأمريكي الكبير "وول ديورانت" يترأس واحدة من أهم وأقدم المؤسسات البشرية عبر التاريخ أي الكنيسة الكاثوليكية، والتي يعود سلمها الوظيفي -ناهيك عن دورها الروحي حول العالم- إلى ألفي عام خلت.
وفي الوقت ذاته يبقى البابا أحد أكبر أصحاب النفوذ حول العالم- نفوذ معنوي وروحي- على مليار وثلاثمائة مليون نسمة، هم تعداد الكاثوليك المنتشرين في قارات الأرض الست، ولهذا يفهم المرء تلك القوة الخفية القائمة وراء جدران الفاتيكان.
أحب المسلمون فرنسيس لبساطته وزهده، فهو الفقير بالروح الذي يعيش وراء جدران الفاتيكان، وهو الرجل الذي أنكر عشرات المرات حتمية ربط الأديان مباشرة بالإرهاب لاسيما الإسلام، وبلغت به الموضوعية الإشارة إلى أنه في قلب الكاثوليك من يقوم بأعمال عنف، فهل نسمي الكاثوليكية إرهاباً؟
ذات مرة في مؤتمر يالطا عام 1945 تندر سكرتير الحزب الشيوعي جوزيف ستاين على بابا روما وقتها "بيوس الثاني عشر"، والذي طلب أن يشارك في المؤتمر لضمان عدم حدوث حروب مرة جديدة، غير أن ستالين تندر عليه وقتها بقوله: "كم فرقة عسكرية يمتلكها البابا"، ولم يكن يدر بخلده آنذاك أن المسمار الأول الذي سيدق في نعش الشيوعية سوف ينطلق من الحاضنة الكاثوليكية في بولندا، عبر نقابة تضامن العمال التي يقف على رأسها "ليش فاليسيا"، العامل الكاثوليكي الذي سيضحى لاحقاً رئيساً لبولندا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وبفضل الدعم الكبير والواضح الذي قدمه بابا روما البولندي الأصل "يوحنا بولس الثاني"، أو "كارول فويتيلا" في اسمه الذي ولد به على أراضي الدولة الواقعة تحت نير الشيوعية.
أربعة عشر قرناً على العلاقة بين الإسلام والمسيحية عرفت أزمنة توتر وحروب، وكذلك لقاءات ومصالحات وتسامحات، شأن كل علاقة بشرية، غير أن العام 1962 وحتى العام 1965 قد غيرا من مسار تلك العلاقة، وذلك حينما انعقد المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، والذي أخرج للعالم وثيقة تتصل بعلاقة الكنيسة الكاثوليكية بالأديان التوحيدية، وببقية المذاهب الوضعية.
أما الوثيقة والمعروفة جيداً للعاملين في حقل الحوار بين أتباع الأديان فيطلق عليها "NOSTRA AETAE"، أي "في حاضرات أيامنا"، والتي كانت فتحاً جديداً في بناء مودات مع العالم الإسلامي، والبحث عن جذور مشتركة لتعميق العلاقات بين أبناء إبراهيم، ومن يومها انطلقت المسارات، وبدأت مساقات التعارف بين الشعوب والقبائل المسيحية والإسلامية، على أسس من الإيجابيات الخلاقة.
نصف قرن تقريباً وأزيد قليلاً من تلك الوثيقة التي غيرت كثير من الطباع، وبدلت العديد من الأوضاع، وأوجدت مساحة واعية وواعدة من فرح اللقاء، الذي عمل البابابوات منذ ذلك الحين على تعميقه، من خلال زيارات متعددة إلى العالم الإسلامي بدوله المتعددة.
ما الذي يدعونا إلى إعادة قراءة أوراق هذا الملف من جديد؟
عدة أسباب في واقع الأمر ولعلها جميعاً في رباط واحد، بمعنى اتصالها في سياقات متشابهة ومتقاربة، وأول ما يواجهه الباحث حالة الأصوليات والقوميات التي بلغت حداً خطيراً على الجانبين، ما ينذر ويحذر من عودة الصراعات ذات الملمح والملمس الديني مرة جديدة حول البسيطة.
فلينظر الناظر إلى أوروبا، وسيجد حالة من الصحوة غير الخلاقة للشوفينيات، وعلى يمينها ويسارها تستعر ظاهرة الإسلاموفوبيا مرة أخرى، وإذا رفع المرء عينه إلى عالمنا العربي سيجد أصوليات دينية ضارة تضع المؤمن المغاير لاسيما من الأقليات الدينية لا العددية في نيران مدافعها المادية والأدبية، وكأن العالم لابد له من الشقاق والفراق، لا الوحدة والاتفاق.
وسط هذه الأجواء والأنواء أعلن الناطق باسم الفاتيكان "غريغ بيرك" أن "البابا فرنسيس وتلبية لدعوة الملك محمد السادس، ومجموعة من الأساقفة العاملين في البلاد، سيقوم برحلة رسولية إلى المغرب يومي 30 و 31 آذار/ مارس المقبل 2019، حيث سيزور مدينتي الرباط والدار البيضاء.. لماذا يذهب البابا إلى دولة إسلامية لا يوجد فيها إلا أقلية مسيحية غالبها إن لم تكن كلها من الأجانب المقيمين أو المهاجرين؟
عند المونسنور "كريستوبال لوبيز" رئيس أساقفة الغرب أنها زيارة للتواصل مع الشعب المغربي وسلطاته، وبشكل خاص جلالة الملك، زيارة تتم بروح ورسم الحوار الإسلامي والمسيحي، وبين أتباع الأديان لتعميق التعايش الإنساني المشترك، لاسيما وأن المغرب نقطة مرور للعديدين الذين يهاجرون من القارة الأفريقية إلى أوروبا، ما يجعل البحث في إشكالية الهجرة غير الشرعية واللاعدالة الاجتماعية حول العالم مبحث واجب الوجود.
يطلقون على فرنسيس أنه بابا محبوب في العالم الإسلامي، وهذا في واقع الحال أمر صحيح لأبعد حد ومد، ذلك أنه منذ أن جلس على كرسي ماربطرس، وهو يعمل على توثيق العلاقة مع الجيران الجغرافيين والديموغرافيين دفعة واحدة، وفي المقدمة منهم مسلمي الشرق الأوسط، وشمال إفريقيا وبقية العالم العربي.
أحب المسلمون فرنسيس لبساطته وزهده، فهو الفقير بالروح الذي يعيش وراء جدران الفاتيكان، وهو الرجل الذي أنكر عشرات المرات حتمية ربط الأديان مباشرة بالإرهاب لاسيما الإسلام، وبلغت به الموضوعية الإشارة إلى أنه في قلب الكثلكة والكاثوليك من يقوم بأعمال عنف، فهل نسمي الكاثوليكية إرهاباً؟
وعطفاً على ما تقدم فإنه يمكن أيضاً للناظر أن يرى المواقف التقدمية التي قام ولا يزال بها البابا فرنسيس تجاه المهاجرين والمعذبين سواء جاءوا من الشرق الأوسط والعالم العربي، حيث أضحى الموت عادة، أم من افريقيا المغطاة بسحابة من ظلم الشمال الغني الذي ما أنفك يستجلب منها ثرواتها الطبيعية، ليدفع ثورته الصناعية إلى الأمام، وإن مات الأفارقة جوعاً أو هلكوا في تناحر أهلي قبلي، وفي هذه جميعها كان فرنسيس ولا يزال صوت صارخ في برية الرأسمالية العالمية مندداً بالإجراءات التعسفية ضد المهاجرين، وطالباً من الأوربيين النظر الى المهاجر كشخص قادر من خلال خبرة حياته وقيمة على تقديم إسهام كبير لصالح غنى المجتمع الذي يستضيفه.
من هذا المنطلق كان فرنسيس ينظر للمهاجرين وجلهم من المسلمين نظرة ملؤها الشفقة والرحمة الانسانيين وكثيراً جداً ما شدد على أهمية المسؤوليات الملقاة على عاتق رؤساء الدول والمشرفين على وسائل الإعلام المعاصرة، في تعزيز نظرة إيجابية حيال ظاهرة الهجرة والسعي إلى تبديد الأحكام المسبقة كالمخاوف والتخلي عن ثقافة الاقصاء والتهميش المهيمنة في عالم اليوم، وبلغ به الأمر إلى إطلاق نداءات رسمية عالية وعالمية في هذا الصدد.
زيارة البابا فرنسيس إلى المغرب في مارس المقبل، تعيد للأذهان ذكرى الزيارة التي قام بها سعيد الذكر البابا يوحنا بولس الثاني إلى المغرب في 19 آب/ أغسطس من عام 1985، بدعوة من الملك الحسن الثاني، والتي أعتبرها الأعلام المغربي وقتها حدثاً جللاً وجليلاً لفتح حوار دائم بين المسيحين والمسلمين.
لم تمنع المشاكل الحادثة في أفريقيا في ذلك الوقت بين المسلمين والمسيحيين البابا الراحل من التوجه إلى المغرب، فقد تنامت عند عقول الفاتيكان المفكرة والمتدبرة بشكل مستمر ضرورة التواصل والتوصل في مختلف بلدان إفريقيا إلى تعايش مع قادة المسلمين وجماهيرهم.
اختار البابا الراحل لقاء أناس من الشباب في المغرب أولئك الذين يمثلون المستقبل بآماله وأحلامه، وحقق بالفعل تواصلاً خلاقاً دعا عشرات الآلاف من الشباب المغربي وكبار السن لاستقباله في الدار البيضاء، وهناك فهم الحاضرون وهم راضون أمنية البابا بتحقيق "تعايش هادئ بين المسلمين والكاثوليك بأسمى درجة من درجات روح التسامح"، وأنصتوا بتأمل لصلاة البابا إلى الله الرحمن الرحيم.
في حوار أخير له مع جمهور من المشرعين الكاثوليك في روما، ذكر البابا فرنسيس الأضرار الواقعة على العالم من جراء التعصب وعدم التسامح فقال: "هناك إيديولوجتين، متعاكستين لكنهما تمثلان تهديداً على نحو متساو"، وهما "الحرية الدينية والضميرية، فـ "النسبية العلمانية والراديكالية الدينية"، تمثلان في الواقع تديناً كاذباً، معتبراً أن الخطر الحقيقي التطرف والتمذهب هما الخطر الحقيقي المساو والموازي للعلمانية الجافة التي تسطح أو تسفه من كل ما هو ديني إيماني عميق.
في كافة حواراته يسعى البابا فرنسيس إلى البحث عن معنى وجوهر الإنسان الحقيقي، وبعيداً عن الأصوليات الظلامية أو العلمانيات الجافة، ولهذا يرحب بالرجل في دول العالم بوصفه رسول سلام ووئام.
يمكن لعالمنا العربي والإسلامي تعظيم هذه الرحلة بالنظر إليها بوصفها جسرا جديدا من جسور عدة لابد من تخليقها مع الآخر، عوضاً عن بناء جدران لا تعمق إلا تفاوت إنساني ووجداني بين البشر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة