للحقد الذي يلبس كلمة "الشعبي" زورا وبهتانا، تاريخ سابق على تشكيله كقوة مسلحة موازية في العراق.
فهو بدأ كمليشيات تتبع الأحزاب الولائية التي جاءت من إيران ودخلت العراق مع الغزو الأمريكي عام 2003. وكان من بين أول أهدافها العمل على الانتقام لهزيمة إيران في الحرب التي استمرت ثمانية أعوام بين 1980 و1988.
وبينما تكفلت القوات الأمريكية بهدم مؤسسات الدولة، ومنها مؤسسة الجيش، فقد تكفل "الحقد الشعبي" بملاحقة الضباط، من كبارهم إلى أدناهم رتبة.
فبدأت حملة اغتيالات لم تقتصر على ضباط الجيش وحدهم ولكنها امتدت إلى العلماء والأطباء والمهندسين، وذلك بناء على قوائم معدة سلفا في طهران، قَصَدَت هدم كادر الإعمار ليبقى البلد نهبا للخراب والفشل. ولا يوجد إحصاء شامل لعدد ضحايا تلك القوائم إلا أن بعض التقديرات تذهب إلى أكثر من 10 آلاف.
وامتد الحقد ليتحول إلى معارك وحملات تطهير داخل الأحياء السكنية، في بغداد خاصة، حيث شنت مليشيات الولاء لإيران ما كانت تعتبره حربا طائفية للانتقام من "يزيد بن معاوية". ولئن أوغل الولائيون بدماء فقراء الناس واستباحوا منازلهم، فإنهم لم يعثروا على أي أثر ليزيد بن معاوية، إلا أنهم ظلوا يبحثون عنه في مدن الفلوجة وسامراء وتكريت والرمادي وديالى والموصل وغيرها، فدمروا أجزاء واسعة من هذه المدن وشردوا أهلها، ولم يعثروا عليه، كما لم يشفوا غليلهم من عامة الناس.
وبينما كان الضباط الأمريكيون يستمتعون بما كانوا يعملونه في سجن "أبو غريب"، فقد أنشأت هذه المليشيات سجونا سرية مورست فيها أبشع أعمال التعذيب، بما فيها الاغتصاب، ليس من باب التقليد لما كان يتم فعله في "أبو غريب"، وإنما من باب الابتكار للتنفيس عن الأحقاد الطائفية التي مورست ضد الذين يُحتمل أن يكون يزيد بن معاوية قد دخل منازلهم، حتى وإن كانوا منه براء، أو لم يسمعوا به من الأساس.
النتيجة من كل ذلك، بحسب الإحصاءات التي توفرت حتى نهاية عام 2010، هي أن أعمال الحقد أسفرت عن خمسة ملايين مهجر، وأكثر من مليون أرملة وخمسة ملايين يتيم، ونحو 400 ألف ضحية لأعمال التعذيب، وتهدمت عشرات الآلاف من المنازل. كما شملت المأساة إقامة جدران فاصلة، بين الأحياء، لعزل الطائفتين الرئيسيتين في البلاد عن بعضهما. ولئن ألِف العراقيون، قبل ذلك الوقت، أن يتعاشروا ويتزاوجوا ويتجاوروا من دون أن يعرف أحدهم طائفة الآخر، أو من دون أن تشكل الطائفة بالنسبة لهم قضية "تاريخية" أو مصيرية، فإن هذا الحال انقلب بسبب المخاوف التي نشأت بسبب تفشي الحقد الشعبي الذي بناه الولائيون. وكان من بعض أسبابه هو أنك يجب أن تحقد على جارك، لكي تأمن على نفسك من الحقد. فتحولت البلاد إلى بركان من قاع الجحيم.
هذه البيئة كانت هي التي صنعت تنظيم داعش. يُخطئ أو يتغابى، مَنْ يظن عكس ذلك. فبضاعة الحقد الأعمى، كانت من الطبيعي أن تُسفر عن حقد أعمى مماثل.
وهناك أمثلة كثيرة في العالم على وجود تمايزات طائفية أو قومية، ولكن حيثما كان يوجد نظام وقانون وقيم تضبط السلوك الاجتماعي، فإن هذه التمايزات لا تخرج لتكون حربا أهلية.
ولكن الحقد الشعبي في العراق، حيث غاب النظام والقانون وتداعت القيم، تحول إلى حرب من طرف واحد ضد طرف تم سحقه وإذلاله وإضعافه وتجريده حتى من مصادر عيشه. ولا يجب نكران أن هذا الطرف المستضعف كان هو الذي يقاوم الاحتلال الأمريكي وظل عاجزا عن مقاومة مليشيات الحقد الشعبي لأنه لم يكن مستعدا لذلك، بل ولا يعرف كيف. وذلك بالنظر إلى أنه كان ما يزال يستنكر فكرة وجود طوائف أصلا.
الأمريكيون أكملوا حقدهم الخاص، فقرروا الانسحاب وسلموا السلطة لإيران لكي تستكمل حقدها على العراقيين وتخرب بلدهم وتنهبه بفساد مليشياتها.
وعندما ظهر تنظيم داعش في خضم ما تراكم في قاع الجحيم من براكين وانهيارات أخلاقية وسياسية ومسالك وحشية يشبه بعضها بعضا، تحول "الحقد الشعبي" إلى مؤسسة شبه رسمية، يتلقى أعضاؤها رواتب تبلغ نحو 500 دولار لكل فرد، فالتأم من حولها فقراء ومهمشون وسقط متاع، وكان واجبهم الأول هو ممارسة الحقد الطائفي، أو استكمال مساراته، أو الرد عليه.
الآن وقد جرت انتخابات خسر فيها "الحقد الشعبي" الكثير من مواقعه، لم يكن من العجيب أن يظهر مَنْ يقول إنه مستعد إلى أن يحرق العراق لكي يحافظ على ما كان له من نفوذ.
قيادي في "عصائب أهل الحق" وهي إحدى مليشيات "الحقد الشعبي"، قال: "نحرق العراق ونلغي الجيش وباقي القوات لنبقى تحت إمرة إمامنا خامئني لتحرير القدس".
ما دخل القدس بالقصة؟ وماذا فعل إمامه خامنئي لها؟ وهل قُتل إيراني واحد في أي حرب من الحروب العربية ضد إسرائيل؟ ولماذا يُحرق العراق؟ وهل أصبح ضيعة من ضيع خامنئي؟ وإذا كان "الحقد الشعبي" هو جيش خامنئي في العراق، فلماذا لا يأخذ رواتبه من ميزانية الدولة في إيران؟ لماذا يسطو على ميزانية دولة ليخدم دولة أخرى غيرها؟
هذه وغيرها أسئلة لا تنتظر جوابا، لأن الحقد عندما يكون حقدا أعمى، لا يعود بوسعه أن يقتفي أي أثر للمنطق. وهو يخلط الحابل بالنابل، ويبرر شيئا بشيء آخر، لأن به وحده، يستطيع أن يمارس دوره كحقد شعبي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة