النظام الإقليمي يحتاج إلى مراجعات وتقييمات سياسية جديدة في ظل التطور الذي جرى في النظام الدولي.
تتجه العلاقات الإماراتية الإسرائيلية نحو بناء منظومة واقعية من أسس ومرتكزات التعاون في مجالات متعددة خارج السياق السياسي، والتي ستكون جزءا من كل، ستركز على توقيع اتفاقيات ثنائية تتعلق بقطاعات الاستثمار والسياحة والرحلات الجوية المباشرة والأمن والاتصالات والتكنولوجيا والطاقة والرعاية الصحية والثقافة والبيئة، وغيرها من المجالات ذات الفائدة المشتركة، استكمالا لخطوات تم اتخاذها من قبل وأهمها تدشين خطوط الاتصال بين البلدين، وهي الخطوة المهمة لعلاقات مباشرة بين البلدين، كما سيعمل الجانبان على توقيع اتفاقيات بين شركات من البلدين في عدة قطاعات، منها قطاع البحث والتطوير إضافة للقطاع الصحي والتنموي، والواضح أن هذه المجالات المشتركة ستكون الهدف الاستراتيجي والأساسي للمعاهدة الثنائية والتي ستوقع في 15 سبتمبر الجاري في البيت الأبيض، وستركز على إقامة علاقات اقتصادية وعلمية في مجالات التكنولوجيا والصحة والذكاء الاصطناعي، وفي ظل توقع بأن يصل التبادل التجاري إلى أربعة مليارات دولار سنويا، وقد يرتفع إلى أضعاف ذلك لاحقا في ظل توافر الإرادة السياسية والاقتصادية المشتركة لتطوير منظومة العلاقات والبناء عليها، لتشمل قطاعات أخرى في المدى الطويل .
إن خريطة الطريق التي ستعمل من خلالها مسارات المعاهدة الإماراتية الإسرائيلية ستحدد صورا غير مسبوقة وغير مطروقة وفي مجالات أكثر استحداثا، وهو ما يضعه الجانبان على رأس الأولويات في المرحلة المقبلة، وبالتالي فإن نجاح العمل معا، وفي مجال التحديات المشتركة والمخاطر الواحدة سيؤدي لنتائج مهمة، ليس على مستوى العلاقات الثنائية فقط، بل سيمتد إلى باقي دول الإقليم، وفي ظل توقعات بتغير هيكلي في البيئة الأمنية والسياسية في الشرق الأوسط وعدم اقتصاره على دول الخليج العربي بل سيمتد إلى دول الإقليم بأكمله، والواقع أنه قد تتالت الإخفاقات الحقيقية خلال سنوات ما قبل المعاهدة الجديدة، والتي أكدت على أن هذا النظام الإقليمي يحتاج إلى مراجعات وتقييمات سياسية جديدة في ظل التطور الذي جرى في النظام الدولي، وكانت خطوات الإخفاقات لهذا النظام الإقليمي متعددة، ولم تقتصر على التجاذبات العربية فقط، ولكن لفشل النظام الإقليمي الراهن في تحقيق أهدافه الحقيقية وفقا لمرتكزات هذا النظام منذ تأسيس أركانه، وهو ما عبرت عنه حالة التعثر العربي ممثلا في مؤسسات الجامعة العربية وقمتها الدورية، في التماهي مع الطرح الإقليمي والدولي من حولها، بل وتعرضت لإشكاليات متعددة، مما أدى لتعثر مهام أنشطة الجامعة العربية باستثناء أنشطة محددة تتم بصورة دورية، وبدليل عدم انعقاد القمة العربية الدورية في الجزائر، ولو من خلال قمة عربية افتراضية، وهو ما لم يحدث بالفعل لتكون سابقة سيتم البناء عليها لاحقا في القمة المقبلة في مارس 2021، كما انزوت بعض الأطراف العربية الأخرى، ومنها دول المنطقة المغاربية في إدارة مصالحها المباشرة بعيدا عن بؤرة النظام العربي وقضاياه الرئيسية، وكانت المسالة الليبية مدخلا لما جرى في المنطقة، وما زال قائما في ظل استمرار مخاطر الوضع الراهن، ودخول أطراف عربية على الخط وبدء تدويل الملف الليبي، ليكون مثالا لكل القضايا الإقليمية الأخرى، خاصة وأن كل القضايا العربية أصبح حلها يحتاج إلى إرادة دولية، ودور لأطراف إقليمية ودولية مثلما جرى في قضية الصراع العربي الإسرائيلي، وفي المسالة السورية، وفي المسالة اليمنية، ليصبح النظام الإقليمي العربي غائبا وغير حاضر، بما قد يفسح المجال أمام تشكل نظام أكثر واقعية، وسيكون هذا النظام هو الأساس في ظل الواقع الجديد الذي يتشكل في العالم العربي، وستتضح معالمه الجديدة مع إبرام المعاهدة الإماراتية الإسرائيلية الجديدة، والتي ستفتح الباب أمام تحولات حقيقية في بنية النظام وبيئته السياسية والاستراتيجية بصورة كاملة وحاسمة، وبما يصلح من الموقف العربي ويدفع لإعادة ترتيب الأولويات العربية على أسس واقعية، وبما فيه الصالح العربي وليس لصالح الإطار الإقليمي الذي تعمل عليه بعض الدول ومنها قطر على سبيل المثال وتحديدا في إحداث انقسامات عربية نتيجة لتدخلاتها في الإقليم وخارجه، ما يشير إلى أن النظام الإقليمي العربي بات معرضا بالفعل لتغيير حقيقي، خاصة وأن قطر لم تستجب لتحقيق المصالحة، ولم تتجاوب مع أي طرح عربي برغم ما بذلته أطراف عربية وإقليمية ودولية لإتمام الوساطة إلا أنها اصطدمت فعليا بالتعنت والرفض القطري ومسعاها للاستقواء بالأطراف الإقليمية، علما أن قطر تقيم علاقات مباشرة ومعلنة مع الحكومة الإسرائيلية منذ سنوات طويلة.
سيؤدي إذن نجاح المعاهدة الإماراتية الإسرائيلية إلى إحداث تغييرات في المنظور السياسي والاستراتيجي لبعض الدول العربية، والنظر إلى إسرائيل - بصرف النظر عن استمرار معارضة ما جرى من بعض الأوساط العربية الفلسطينية - برؤية أكثر واقعية، وهو ما سيؤدي إلى صياغة رؤية سياسية جديدة وفقا للمتطلبات والأولويات الجديدة للطرفين العربي والإسرائيلي، خاصة وأن الأولويات العربية للأنظمة التي ستدخل في معاهدات سلام وتسوية مع إسرائيل، ستتبدل عما كان قائما، وستغير من أولوياتها السياسية من إسرائيل للأطراف الإقليمية المهددة للأمن القومي العربي، وهو ما سيتضح في المراحل التالية لتطبيق المعاهدة الإماراتية الإسرائيلية .
وستدشن مرحلة مهمة من الواقعية السياسية في الإقليم، والتي مضت فيها دولة الإمارات العربية المتحدة، وغيرت بالفعل المعطيات الجامدة للعلاقات العربية الإسرائيلية، والتي وصفت بالركود والثبات السلبي، وعدم التجاوب مع المتغيرات الجديدة التي تحدث في الإقليم، وتطلبت رؤية أكثر واقعية في عالم عربي يعاد النظر في أولوياته، بعد أن ظهرت تحديات ومخاطر جديدة منها تداعيات أزمة كورونا والمواجهات الإلكترونية والاختراقات الأمنية والحرب البيولوجية، وبدء ما يعرف بحروب الجيل السادس، وكذلك عدم الاقتصار على فكرة الأحلاف والمحاور الراسخة الثابتة، واحتمالية العمل على طرح إمكانية تأسيس أنماط جديدة مؤقتة من العلاقات لمواجهة التهديدات والمخاطر التي تواجه المنطقة في المرحلة الحالية.
ما بعد 15 سبتمبر المقبل، سيتجه العالم العربي لمرحلة مختلفة تماما، ستقوم على أسس من الرشادة والمصالح المتبادلة، والفوائد المشتركة، والتي ستشمل كل الأطراف ولن تقتصر على دولة واحدة .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة