توجهات الحكومة.. وإشكالية "ثنائية الحكم" في تونس
المشهد السياسي الذي بدأت ملامحه في التشكل على الساحة التونسية تؤشر على حدوث اختلافات بين أعضاء الائتلاف الحاكم
يبدو أننا أمام مشهد سياسي جديد بدأت تتضح ملامحه على الساحة التونسية، فالتجربة التونسية التي تشهد تحولاً في المسار السياسي منذ عام 2011 تدخل اليوم انعطافا تاريخيا نتيجة الحراك الحاصل منذ الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية والتشريعية، خلال الأسابيع القليلة الماضية، وصولاً إلى تكليف الرئيس التونسي، قيس سعيد، في 15 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، المُرشح المقترح من طرف "حركة النهضة"، الحبيب الجملي بتشكيل الحكومة الجديدة.
إذ إن ما تشهده تونس من أحداث مثيرة وربما غير مسبوقة في الوضع السياسي الذي تمر به البلاد، يبعث على كثير من الفضول والترقب لما يمكن أن تُسفر عنه التجاذبات السياسية بشأن توجهات هذه الحكومة، من حيث إنها سوف تُعبر عن الرؤية العامة لحركة النهضة، التي تنتمي فكراً وتنظيماً إلى تنظيم الإخوان، من جانب؛ وحول مدى التوافق بينها وبين رؤية الرئيس الذي يأتي من خارج الطبقة السياسية الحاكمة على امتداد السنوات الماضية، ويُقدم نفسه بديلاً لها؛ وهو ما يمكن التعبير عنه بإشكاليات "ثنائية الحكم"، من جانب آخر.
هذا، فضلاً عن طبيعة الائتلاف الحزبي داخل البرلمان، الذي سوف يُشارك حركة النهضة في تشكيل الحكومة، وصياغة التوجهات السياسية لها، وكيفية تعاملها مع مشكلات الواقع الاقتصادي والاجتماعي، نظراً لمستوى الدين الخارجي المرتفع والمتفاقم، وانعكاساته السلبية على حياة الكثير من التونسيين.
- أسبوع تونس.. تقارب "مريب" بين النهضة والقروي ورئاسة البرلمان تثير جدلا
- بأغلبية ضعيفة وتوافقات هشة.. الغنوشي رئيسا لبرلمان تونس
ائتلاف تشكيل الحكومة
لم يحفل مجلس شورى حركة "النهضة"، خلال اجتماعه منذ أيام، في 10 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، بدعوات الرفض التي أطلقتها الأحزاب الفائزة في الانتخابات التشريعية؛ تلك التي تطالب بعدم الموافقة على ترؤس النهضة للحكومة الجديدة، ورفض التحالف معها؛ بل على العكس، أعلن المجلس عن تمسكه بتعيين رئيس للحكومة من قيادات الحركة، أو على الأقل من الشخصيات المُقربة منها. وبالفعل، تم تقديم مرشح لرئاسة الحكومة، قريباً من النهضة، هو الحبيب الجملي.
والجملي، وإن كان قد شغل طوال مسيرته المهنية وظائف إدارية وفنية وبحثية في ديوان الحبوب "وزارة الفلاحة"، وإن كان قد شارك، أيضاً، في لجان ومجالس إدارات شركات عمومية ذات صلة بالقطاع الزراعي، فإنه في الوقت نفسه كان قد شغل منصب وزير الفلاحة من عام 2011 إلى عام 2014، خلال حكومتي القياديين في حركة النهضة، حمادي الجبالي وعلي العريض، وهو ما يعني أن الجملي يأتي ضمن الشخصيات المُقربة جداً من الحركة وتوجهاتها السياسية.
وفيما يبدو، فقد استغلت الحركة حسم معركة رئاسة البرلمان، في "تسمية" المرشح لرئاسة الحكومة. فقد أسفرت انتخابات رئاسة البرلمان، التي أُعلنت نتائجها في 14 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، عن فوز زعيم الحركة راشد الغنوشي بغالبية الأصوات. فقد نال الغنوشي 123 صوتاً، إثر اتفاق مع الحزب الثاني في البرلمان، حزب "قلب تونس"، الذي يترأسه رجل الأعمال نبيل القروي، والذي كان مُترشحاً في انتخابات الرئاسة التونسية، أمام الرئيس الحالي قيس سعيد.
الجدير بالملاحظة، أن القروي كان قد نفى، في تصريحات صحافية سابقة، إمكانية التحالف مع النهضة؛ بل واتهمها بالوقوف وراء توقيفه بتهم جنائية خلال الحملة الانتخابية للرئاسية التي ترشح لها. رغم ذلك، فقد عزز تخلي رضا شرف الدين، القيادي في حزب قلب تونس، عن تقديم ترشحه، من احتمال وجود اتفاق سياسي بين النهضة وقلب تونس، بشأن التصويت لصالح الغنوشي؛ وهو الاحتمال الذي تأكد في ضوء تصويت نواب الحزب لصالح الغنوشي في رئاسة البرلمان.
توجهات حكومة الائتلاف
يعني ذلك، أن ائتلاف تشكيل الحكومة يقوم بشكل أساسي على حزبي النهضة، وقلب تونس، والنهضة الذي حل الأول في البرلمان بحصوله على 52 مقعداً، أي أقل من "رُبع" مجموع النواب البالغ 217 عضواً؛ ما دفعه للدخول في مشاورات مع بقية الأحزاب، لكي يتمكن من تشكيل حكومة بإمكانها تحصيل مُصادقة 109 من نواب البرلمان. إضافة إلى قلب تونس، الذي تمكن من حصد 38 مقعداً، وحل ثانياً في البرلمان؛ واشترط ترشيح شخصية بخلفية اقتصادية لرئاسة الحكومة.
يعني ذلك، أيضاً، أن مجموع أعضاء الحزبين داخل البرلمان لا يصل إلى النسبة المطلوبة، ما يؤشر إلى ضرورة دخول كليهما في مشاورات مع أحزاب أخرى داخل البرلمان، للحصول على مُصادقة البرلمان على تشكيل الحكومة؛ بما يؤكده ذلك من أهمية التنازل ـ ولو مؤقتاً ـ من جانب النهضة، عن بعض الوزارات "غير السيادية"، في تشكيلة الحكومة للأحزاب الأخرى.
رغم ذلك، أو بالرغم من طبيعة الائتلاف المنوط به تشكيل الحكومة، إلا أن الرؤية العامة لهذه الحكومة سوف تكون محكومة بالرؤية العامة لحركة النهضة، كحركة إخوانية، ولا نعتقد أن في ذلك جديداً، إذ إنه رغم محاولات النهضة النأي بنفسها عن كونها فرعاً للتنظيم الدولي للإخوان في تونس، فإن تحركاتها وأدبياتها تؤكد ذلك.
أما الجديد هنا هو مدى قبول أعضاء الائتلاف الحاكم، الذي سوف يُشارك في الحكومة، ومن ثم يُصادق على تشكيلها داخل البرلمان، على الرؤية العامة لحركة النهضة بخصوص التوجهات السياسية والاقتصادية لهذه الحكومة، وبرامجها إزاء الواقع التونسي، وطموحات الكثير من التونسيين.
ولعل هذا يؤكد من جديد ملامح المشهد السياسي الذي بدأت ملامحه في التشكل على الساحة التونسية. هذه الملامح التي تؤشر إلى الاختلافات المتوقعة، أو التي يمكن توقعها فيما بين أعضاء الائتلاف الحاكم وما يمكن أن تُثيره من إشكاليات، ليس فقط في الداخل التونسي، وفي خارجه؛ ولكن أيضاً في معادلة "ثنائية الحكم"، التي يبدو أن الساحة السياسية في تونس سوف تعيشها خلال المرحلة القادمة.
إشكاليات ثنائية الحكم
لعل أهم ما يأتي في هذا الشأن، أن البرلمان التونسي بانتخابه مرشح حركة النهضة، رئيساً له، وترشيح الحركة رئيساً للحكومة مُقرباً منها، يجعل من الحركة التي تعتبر امتداداً للإخوان القطب الأبرز على الساحة السياسية التونسية من حيث الحياة النيابية والتنفيذية في البلاد.
ربما تتميز "النهضة" عن غيرها من الجماعات التي تندرج تحت لواء تنظيم الإخوان، في امتلاكها القدرة على التكيف طبقاً للظروف والمعطيات، سواء الخاصة بالداخل التونسي أو الخارجي الإقليمي والدولي، بحسب ما توضح مسيرتها خلال الأعوام الماضية؛ إلا أنها، رغم ذلك، لا تستطيع الانفكاك من الرؤية العامة للإخوان، فيما يخص محاولات "التمكين"، أو فيما يتعلق بسياسات الحكم عموماً، وهنا تتبدى الإشكاليات المتوقعة بوضوح.
إحدى أهم هذه الإشكاليات، هي ما يخص الوزارات السيادية؛ وهي الوزارات التي لا يمكن للنهضة تحديد شاغليها إلا بالتشاور مع الرئيس، وموافقته عليهم. وفقاً للفصل 89 من الدستور التونسي، الذي ينص على أن "تتكون الحكومة من رئيس ووزراء وكُتاب دولة، يختارهم رئيس الحكومة، وبالتشاور مع رئيس الجمهورية بالنسبة لوزارتي الخارجية والدفاع".
ضمن الإشكاليات، أيضاً، الاختلافات المتوقعة بين الرئيس والحكومة، حول نوعية الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية، التي سوف تبنى على أساسها الرؤية السياسية للحكومة. يبدو ذلك بوضوح، إذا لاحظنا أن الرئيس قيس سعيد، الذي أثار الجدل في البلاد منذ إعلان ترشحه للانتخابات الرئاسية، يرفع مبادئ الثورة التونسية، انطلاقاً من شعار "الشعب يريد، نحن لا نستطيع تغيير الجغرافيا، ولكن نستطيع تغيير التاريخ"؛ فضلاً عن دعوته إلى "لا مركزية" القرار السياسي، وتوزيع السلطة على لجان محلية. وهو ما يمكن أن يتصادم مع رؤية النهضة السياسية.
رغم ذلك، أو بالرغم من أن دور الرئيس يبقى مفصلياً في الحياة السياسية الوطنية، فإن الدستور التونسي دستور 2014 يحدد صلاحيات الرئيس ويمنح الحكومة أوسع صلاحيات الحكم؛ بل إن الحكومة ورئيسها أصبحت تبعاً للدستور محور السلطة التنفيذية، ومن ثم، لم يعد رئيس الدولة يمتلك من الصلاحيات إلا الدفاع والخارجية و"الأمن القومي"، بالإضافة إلى بعض الصلاحيات الجانبية الأخرى، مثل رئاسة مجلس الوزراء في حال مشاركته فيه.
إلا أن ما يُعطي منصب الرئيس أهميته، حقيقة، هو المخيال الشعبي؛ فالشرائح الشعبية تهتم أكثر بمنصب الرئاسة جراء الأبعاد الرمزية التي مثلها الرئيس في أذهان التونسيين، بعد أكثر من 60 عاماً من الحكم الرئاسي الفردي.
في هذا السياق، تتبدى ملامح المشهد السياسي التونسي بما يُعبر عنه من احتمالات مفتوحة على مستويات متعددة على الأقل من منظور المعادلة التي سوف تعيشها تونس خلال القادم من الأيام، معادلة "ثنائية الحكم"، وما سوف يترتب عليها من إشكاليات.
aXA6IDMuMTQ3LjEzLjIyMCA= جزيرة ام اند امز