الكثير من المجتمعات العربية والإسلامية على وجه الخصوص لا يُدخل أدوات البحث العلمي الرصين لعلاج مشاكله الاجتماعية.
رب البشر أقر منذ الأزل أمراً احتار البعض في تفسيره، بل في تحويله إلى واقع معيش، فماذا قال المولى جل في علاه عن النصارى: (... وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ...)، «سورة المائدة: الآية 82».
فلنحص هؤلاء بالإنصاف ولو من أنفسنا، وهو جزء من العدالة الإلهية التي تطبق على الناس أجمع بلا فواصل أو فوارق من جنس أو دين أو عرق.
وهذا الدور يؤديه المختصون في العلوم الإنسانية، وعلى رأسهم علماء الاجتماع الذين يملكون زمام القرار الاجتماعي مثل ما يملك الساسة خطام القرار السياسي في الدول والمجتمعات. وهو أمر يتعلّق بصناعة القرار الاجتماعي الذي من أهدافه ردم الفجوات بين البشر، وقد يطرح هذا الأمر على شكل مساقات دراسية في أروقة الجامعات، كما هو موجود في «SCHOOL OF SOCIAL POLICY» بجامعة مانشستر.
ويغفل البعض عن أهمية ذلك، لأن الكثير من المجتمعات العربية والإسلامية على وجه الخصوص لا يُدخل أدوات البحث العلمي الرصين لعلاج مشاكله الاجتماعية، وخاصة ما يتعلَّق بالتقارب بين الشعوب أو الطوائف والعرقيات المتعددة الأديان والمذاهب، وهو ما تُعاني منه بعد أن دفع المجتمع الدولي ثمناً باهظاً لتلافي حمولات الدين والعرق والطائفية التي طعنت في النسيج الاجتماعي للبشر بكافة فسيفسائهم الإنسانية.
ملأت الفتاوى الشرعية في أوروبا العدالة الاجتماعية الوحيدة في العالم اليوم لكي تضرب إسفين الفرقة بين المسلمين والنصارى، ولكي تنشر كلاماً عن جواز نكاح البنت النصرانية وعدم جواز تهنئتها في مناسباتها الاجتماعية والدينية، وعدم جواز مصافحتها وهي أم عياله، وهذا هو الفكر الذي يقطع أوصال الإنسانية إرباً إرباً
فلننظر إلى العلاقات الإنسانية، وبالأخص الزواج، والكل يعرف قصّة النجاشي في احتواء المسلمين من بطش قريش، وفي تفضيلهم البقاء لدى النصارى دون الفرس لقرابة الدين، وقد نص القرآن الكريم على الفرح بانتصار الروم على الفرس في سورة كاملة عنوانها «الروم» (الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ ۗ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ...)، «الآيات 1 - 4».
وأثناء وجود المسلمين هناك، خرج رجل ينازع النجاشي ملكه، قالت أم سلمة: «خرج عليه رجل من الحبشة ينازعه في ملكه، فوالله ما علمنا حزناً قط هو أشد منه، فَرَقاً من أن يظهر ذلك الملك عليه، فيأتي ملك لا يعرف من حقنا ما كان يعرفه، فجعلنا ندعو الله ونستنصره للنجاشي، فخرج إليه سائراً، فقال أصحاب رسول الله بعضهم لبعض: من يخرج فيحضر الوقعة حتى ينظر على من تكون؟ وقال الزبير - وكان من أحدثهم سناً - أنا، فنفخوا له قربة فجعلها في صدره، فجعل يسبح عليها في النيل حتى خرج من شقه الآخر إلى حيث التقى الناس، فحضر الوقعة، فهزم الله ذلك الملك وقتله، وظهر النجاشي عليه، فجاءنا الزبير، فجعل يليح لنا بردائه، ويقول: ألا فابشروا، فقد أظهر الله النجاشي، قلت: فوالله ما علمنا أننا فرحنا بشيء قط فرحنا بظهور النجاشي، ثم أقمنا عنده حتى خرج من خرج منا إلى مكة وأقام من أقام».
أعود بكم إلى مسألة الزواج، زواج من، زواج النبي من أم حبيبة، فلنستمع إلى أبرهة الحبشية، وهي من خدم النجاشي، كانت عند أم حبيبة لما زوجها النجاشي للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي التي بشرت أم حبيبة بخطبتها لرسول الله، فسرت سروراً عظيماً وكافأتها على ذلك بسوارين وخلخالين كانت في رجليها وخواتم من فضة ولما قبضت مهرها أعطتها أم حبيبة خمسين مثقالاً، فردت عليها أبرهة كل ما أهدته لها قائلة عزم عليّ الملك ألا أرزأك شيئاً، وأنا التي أقوم على ثيابه ودهنه وقد اتبعت دين رسول الله وأسلمت لله وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بكل ما عندهن من العطر.
وتقول السيدة أم حبيبة: فلما كان الغد جاءتني بعود وورس وعنبر وزباد كثير، وقدمت بذلك كله على رسول الله وكان يراه علي وعندي فلا ينكر. وقالت أبرهة فحاجتي إليك أن تقرئي رسول الله مني السلام وتعلميه أني قد اتبعت دينه. قالت أم حبيبة وكانت هي التي جهزتني، وكلما دخلت عليّ تقول لا تنسي حاجتي إليك فلما قدمت على رسول الله وأقرأته منها السلام قال: وعليها السلام ورحمة الله وبركاته.
ولا نطيل في التعليق على هذه المودة العميقة عند رسول الرحمة المهداة للنصارى منذ اليوم الأول لتعرض المسلمين للاضطهاد من أقرب الأقربين، فكان النجاشي وقومه من النصارى أقرب إليهم لصلة الدين وقرابته المتينة عندما تخون قرابة الأقربين.
واليوم تخرج أفواه من المسلمين تريد طمس نور المودة التي أرست دعائمها نبوة محمد صلى الله عليه وسلم للعالمين، لكي تشكك في نصارى اليوم واختلافهم عن قوم النجاشي؛ للتمادي في قطع أرحام البشرية التي تلتقي جميعاً في عبادة رب واحد بلا منازع.
وملأت الفتاوى الشرعية في أوروبا العدالة الاجتماعية الوحيدة في العالم اليوم، لكي تضرب إسفين الفرقة بين المسلمين والنصارى، ولكي تنشر كلاماً عن جواز نكاح البنت النصارية وعدم جواز تهنئتها في مناسباتها الاجتماعية والدينية وعدم جواز مصافحتها وهي أم عياله، وهذا هو الفكر الذي يقطع أوصال الإنسانية إرباً إرباً، فلابد من غرس المودة النبوية للنصارى وقطع دابر الذين لا يفقهون من الدين إلا البهتان!
نقلا عن "الاتحاد"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة