أساليب القمع قد تؤجل الاحتجاجات لفترة من الزمن لكنها لا تستطيع إخمادها نهائياً لأنها مرتبطة بحياة الناس وآمالهم في العيش الكريم.
أقدمت السلطات الإيرانية مؤخراً على استبدال الشبكة الدولية "تليغرام" التي تغذي الإنترنت لأكثر من 40 مليون مستخدم بالشبكة المحلية "سروش" التي لا تخدم سوى 3 ملايين مستخدم، ما أدى إلى التقليل من تأثير المستخدمين، وغالبيتهم من الشباب الذين خرجوا في تظاهرات احتجاجية لتردي الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ومن أضرار هذا الإغلاق التسبب في عطالة نحو أكثر من 200 موظف كانوا يعملون في هذه الشبكة الدولية. وذهب جهاز الأمن القومي الإيراني إلى التحذير من تطبيقات التواصل الاجتماعي التي باتت سلاحاً بيد المحتجين، وانعكس هذا الغليان الشعبي على صفحات شبكات التواصل الاجتماعي التي تسيطر عليها جهتان، الأولى: رسمية وتتمثل في الهيئة الحكومية، والثانية بيد المحتجين ضد الأوضاع السيئة، وذلك ما يفضي إلى حرب غير معلنة في العالم الافتراضي.
النظام الإيراني لم يعد يؤمن بمشروعية شبكات التواصل الاجتماعي ويعمل على التضييق عليها، كما لا يعترف بكونها أصبحت ضرورة العصر الرقمي الذي نعيشه، لأنها تأتي نتيجة لتخوفه من تصاعد حدة الاحتجاجات واحتمال اندلاع ثورة جذرية في آليات الحكم التي تعتمد على الاستبداد الديني.
ويبدو من ذلك أن الماكينة الإعلامية الرسمية الضخمة بكل إمكانياتها لا تزال عاجزة عن إقناع المحتجين، وقد اعترفت مؤخراً بأنها تواجه نوعاً من الحرب النفسية، لذا فقد تم استحداث هيئة رسمية لإدارة هذه الحرب التي ترجعها إلى المحرّك الأمريكي.
وفي هذا التوجه، تحاول الماكينة الإعلامية الرسمية أن تضع رأسها في الرمال لأنها لا ترى الحقيقة، وتعزوها إلى التدخل الأمريكي والعقوبات التي فرضتها، دون الذهاب إلى الأسباب الحقيقة لهذه الاحتجاجات، ومعالجتها من الجذور، والسعي إلى تقديم الحلول الملائمة. لكنها حولت المعركة إلى خارج البلاد، لأن التدخل الأمريكي يعمل على "بث روح اليأس في داخل المجتمع الإيراني" وإن كان ذلك صحيحاً، فإن ما يحدث في الواقع هو شيء آخر، لا يمكن تعليقه على شماعة التدخل الأمريكي. إن مواجهة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تتطلب استراتيجية حكيمة، ولا بد للسلطة الرسمية من الاعتراف بالمشاكل الجوهرية التي تواجهها البلاد، حتى لو كانت تثيرها الأطراف الخارجية المتمثلة بالشبح الأمريكي.
إن ما يساعد في الاحتقان الاجتماعي هو التضييق على حرية الصحافة، وإصابتها بالشلل من خلال إقامة الأسوار حولها، وحجب شبكات التواصل الاجتماعي، وعدم بذل أي جهد لفهم تطلعات المحتجين. وتصر السلطة على أن المشكلة ليست اقتصادية وثقافية وأمنية؛ بل حرب نفسية تشنها وسائل الإعلام الأجنبية، ولا تزال تتشبث بوصف أمريكا بالشيطان الأكبر دون فهم الأوضاع الداخلية وانهيار العملة الإيرانية وارتباك السوق وغيرها. وبدلاً من معالجة هذه القضايا بمهارات وقدرات مهنية، حولت السلطة الإيرانية ساحة الحرب إلى الخارج وعن طريق "البروباغندا" التي تذكّر بأجواء الحرب الباردة على الرغم من أن الإعلام الغربي لا يعمل سوى نقل ما يحدث في داخل البلاد، إلا أن نقل ساحة الحرب إلى الخارج هو دليل على عجز واضح في تقديم الحلول المطلوبة، والهروب إلى الأمام في وصف الإعلام الغربي بأنه مغرض، فهناك صحفيون نزهاء ويعملون ضمن الضوابط الصحفية المهنية.
إن تقوية الماكينة الإعلامية الإيرانية تُثقل كاهل الاقتصاد، ولا تبرير لها، فقد بلغت ميزانيتها نحو 1. 7 مليار دولار، وهذا الإنفاق العالي في مجال الإعلام، لم يقدم الحلول الجذرية للمشاكل الاقتصادية والاجتماعة والسياسية. فلم تنفع المكاتب الخارجية الـ21 ولا الـ30 من الفضائيات ولا الـ12 قمراً اصطناعياً أجنبياً، ولا الـ13 إذاعة محلية بمختلف لغات العالم. كما لو أنها تحارب طواحين الهواء. وقد تضخمت الماكينة الإعلامية الإيرانية من أجل مواجهة الاحتجاجات الشعبية عن طريق "البروباغاندا" السمجة التي ملّ من سماعها الناس.
بل وذهبت السلطة الإعلامية إلى منع المدارس من استخدام التلغرام والانستقرام والفيس بوك والتويتر وغيرها، التي تتمتع بشعبية واسعة، ولم تتمكن الشبكة المحلية أن تخدم الأعداد الكبيرة للمستخدمين، مما أثار السخط والغضب عن هؤلاء الشباب، وبذلك فتحت الماكينة الإعلامية الإيرانية جبهة أخرى من جبهات المواجهة الافتراضية.
هل تشهد الأوضاع الساخنة ثورة الهواتف المحمولة؟
إن أساليب القمع قد تؤجل الاحتجاجات لفترة من الزمن لكنها لا تستطيع إخمادها نهائياً، لأنها مرتبطة بحياة الناس وآمالهم في العيش الكريم. وإذا خلت الشوارع من المحتجين لبعض الوقت، فإنها ستعود ثانية لأن المشاكل الاجتماعية والاقتصاية والسياسية لم تجد الحلول الجذرية. ومما لا شك فيه، إن هؤلاء المحتجين لا يمتلكون سوى سلاح شبكات التواصل الاجتماعي التي تعبّر عن روح الحراك المعاصر في معركة مدنية بين البروباغاندا والاحتجاجات. وقد تطول هذه المواجهة لسنوات ولكنها ستثمر ذات يوم، لأنها منبثقة من الاحتياجات الحيوية. وتفهم السلطة جيداً أن هذا الحراك الشعبي سيزيد الهوة بين المتشددين وبين الإصلاحيين، وستكون المواجهة أكثر عنفاً في الأيام المقبلة.
من المعروف جيداً أن هذه الاحتجاجات ليست وليدة اليوم بل تمتد على مدى سنوات الحكم الديني الاستبدادي، لكن اشتدادها جاء نتجية لتعرض المؤسسات المالية إلى الإفلاس وحدوث التضخم والمطالبة بالديمقراطية والحرية والتغيير، وهي مطالب لا يمكن أن تتحقق في ظل استبداد الحكم الديني الذي لم يقدم الحلول العاجلة للأزمات التي يمر بها المجتمع الإيراني طوال هذه الأعوام، بحيث تحولت الاحتجاجات إلى موجة غضب عارمة أدت مواجهاتها إلى مقتل العشرات وسجن المئات. وهذا من شأنه أن يزعزع السلطة، ويدعم حركة الإصلاحيين الذين طالبوا بعدم استخدام العنف والتخفيف من القيود المفروضة على العالم الافتراضي الذي أصبح كالماء والهواء بالنسبة للشباب.
ولا بد من الإشارة إلى أن نصف الشعب الإيراني تقريباً يمتلك الهواتف المحمولة التي يستخدم فيها الفيديو والرسومات التوضيحية والصور وتبادل الرسائل النصية القصيرة، ولكن النظام الإيراني لم يعد يؤمن بمشروعية شبكات التواصل الاجتماعي ويعمل على التضييق عليها، كما لا يعترف بكونها أصبحت ضرورة العصر الرقمي الذي نعيشه، لأنها تأتي نتيجة لتخوفه من تصاعد حدة الاحتجاجات واحتمال اندلاع ثورة جذرية في آليات الحكم التي تعتمد على الاستبداد الديني والسياسة الخارجية العدائية.
نحن نعيش عصر تأثير شبكات التواصل الاجتماعي واستخداماتها وتطبيقاتها، ولا يؤدي التضييق عليها سوى المزيد من الاحتقان والتوتر والعزلة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة