احتجاجات العراق.. ما نوع التغيير السياسي الذي تنشده الولايات المتحدة؟
من مصلحة الولايات المتحدة أنْ يصبح العراق دولة قوية تستطيع الصمود أمام أية ضغوط خارجية، وتحديدًا الضغوط القادمة من إيران.
في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، انطلقت الموجة الثانية من التظاهرات الشعبية بالعراق، بعد توقف دام قرابة الثلاثة أسابيع، وهي احتجاجات واسعة من حيث النطاق الجغرافي الذي امتدت إليه، والذي لم يكن مقتصرًا فقط على العاصمة بغداد.
وامتدت موجة الغضب لتشمل محافظات وسط وجنوب العراق فضلًا عن انضمام قطاعات واسعة لها كطلبة المدارس والجامعات، وسط قمع القوات الأمنية العراقية والميليشيات التابعة لإيران أفضى إلى سقوط آلاف الجرحى والقتلى منذ بدء الاحتجاجات.
والقارئ لردود الفعل الأمريكية الرسمية يلاحظ بشكل جليّ تأييدها لتظاهرات العراق في مواجهة نفوذ طهران وعملائها في النخبة الحاكمة.
وبالإمكان تلخيص مجمل هذه الردود في الدعوة إلى الوقف الفوري للعنف ضد المحتجين وإقرار إصلاحات كتعديل القانون الانتخابي وقانون الأحزاب مما يمهِّد السبيل إلى انتخابات مبكرة بإشراف قضائي.
وهذه الردود تنطلق جميعها من قناعة أمريكية، عبَّر عنها البيت الأبيض بوضوح في بيان له، ألا وهي "أنَّ العراقيين لن يقفوا مكتوفي الأيدي إزاء استنزاف النظام الإيراني لمواردهم، وتحريك مجموعات مسلحة لمنعهم من التعبير عن آرائهم بسلمية" لنصبح إزاء تساؤل مهم وهو: ما نوع التغيير السياسي الذي ستدعمه الولايات المتحدة الأمريكية في العراق؟
وقد حاول مقال نُشِر على موقع معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى بعنوان "المصالح الأمريكية والوضع الراهن المتغيِّر في العراق" للكاتب مايكل نايتس، المتخصص في الشؤون العسكرية والأمنية للعراق وإيران ودول الخليج، الإجابة عن هذا التساؤل لينتهي إلى جملة من التوصيات حول أبرز المرتكزات أو الدعائم الرئيسة للتغيير السياسي الذي ستقف الولايات المتحدة داعمةً له.
المصالح الأمريكية في العراق
ارتأى الكاتب أنَّ المصلحة الأمريكية الكبرى في العراق هي تأسيس دولة تتمتع بالسيادة والاستقرار والديمقراطية، حيث أكد أنَّ الولايات المتحدة من مصلحتها أنْ تصبح بغداد قوية تستطيع الصمود أمام أية ضغوط خارجية، وتحديدًا الضغوط القادمة من طهران؛ ذلك لأنَّ استمرار ضعف الدولة يستنزف كثيرًا من الطاقات والموارد المالية والبشرية الأمريكية.
بيْدَ أنَّ ظهور تنظيم داعش وبسط سيطرته على كثير من الأراضي في سوريا والعراق منذ عام 2014 قد أفضى إلى انشغال الولايات المتحدة بمحاربة التنظيم وتوجيه ضربات عسكرية إلى أوكاره في كلا الدولتيْن مما مهَّد الطريق أمام توطئة النفوذ الإيراني، واستمرت ضربات التحالف الدولي لمحاربته بقيادة أمريكية حتى أُعْلِن عن هزيمة التنظيم وتحرير الأراضي السورية والعراقية قبل بضعة أشهر من هذا العام.
وفي أعقاب هزيمة داعش، أكَّد الكاتب حاجة الولايات المتحدة إلى وقفة مع الذات في هذه المرحلة الدقيقة والمفصلية؛ وذلك للإجابة عن تساؤل على قدر كبير من الأهمية، حيث ستحدد الإجابة عليه أولويات المرحلة القادمة ألا وهو ما المهدِّد الأكبر للمصالح الأمريكية في العراق؟ أو بعبارة أخرى: ما الذي يهدِّد سيادة واستقرار وديمقراطية الدولة العراقية في الوقت الراهن؟ "إنَّه وبكل تأكيد ليس تنظيم داعش".
إيران.. الخطر الأكبر على السيادة العراقية
من وجهة نظر الكاتب، تمثِّل إيران المهدِّد الأكبر على المصالح الأمريكية في العراق؛ إذ أنَّه وبمقارنة الإحصائيات حول أعداد الإرهابيين في صفوف تنظيم داعش، التي قُدِّرت بنحو 14 ألفا في كلٍ من العراق وسوريا، بأعداد الميليشيات المسلَّحة، التي تمثِّل الذراع العسكري لإيران في العراق، والتي تبلغ 60 ألفا داخل العراق وحدها يتبيَّن أنَّ طهران هي أكبر تهديد على السيادة العراقية.
ويكفي الإشارة في هذا السياق إلى أنَّ الأعداد الضخمة من الميليشيات التي تدعمها إيران خارج إطار قوات الأمن العراقية، كلَّفت الخزانة العراقية حوالي 2.2 مليار دولار في عام 2019.
ليس هذا فحسب، بل إنَّ حكومة الظل العراقية التي أسَّستها إيران تحد كثيرًا من فاعلية الاستراتيجية الأمريكية لمحاربة تنظيم داعش، الذي يحاول الآن لململة شتاته وربما العودة من جديد؛ إذ يعمل وكلاء إيران في العراق على عرقلة المستشارين العسكريين والمقاتلات الأمريكية من أداء مهامها العسكرية ضد التنظيم.
وتشكِّل إيران أيضًا المهدِّد الأكبر للسلم والأمن؛ فبالنظر إلى الإحصائيات الرسمية الصادرة عن مجلس الوزراء العراقي نجد أنَّ أعداد القتلى على أيدي تنظيم داعش قد تراوحت ما بين 93 و 151 قتيلا.
وهو عدد ضئيل إذا ما قورن بأعداد الضحايا الذين سقطوا خلال الأيام الأولى من الاحتجاجات الشعبية العراقية، والتي قُدِّرت أعدادهم بنحو 301 قتيل و15 ألف مصاب حسبما أفادت الإحصائيات الصادرة عن المفوضية العليا العراقية لحقوق الإنسان في شهر أكتوبر/ تشرين الأول المنصرم.
وتُعَد إيران، إلى جانب حلفائها من المسئولين العراقيين، هي المسئول الأول عن حملات القمع الوحشية التي تسبَّبت في سقوط أعداد كبيرة من الضحايا وفقًا لشهادات عدد كبير من المنظمات الحقوقية والصحفيين والمحتجين العراقيين.
ولذا ارتأى الكاتب أنَّ تصريحات المرجع الشيعي بالعراق "آية الله السيستاني" والمتظاهرين العراقيين، التي تشير إلى إيران بالإضافة إلى حلفائها في النخبة العراقية الحاكمة باعتبارهما التهديد الأعظم للأمن في الوقت الراهن، غدت أكثر وضوحًا وحزمًا.
وأكَّد المقال على أنَّ سيطرة طهران على الحكومة العراقية قد بلغت الذروة في عام 2019، وتجلَّى ذلك في أمريْن رئيسييْن ألا وهما الضغط الإيراني لتعيين أبو "جهاد الهاشمي" كمدير مكتب رئيس الوزراء المستقيل "عادل عبد المهدي"، والذي روَّجت بعض التقارير الإعلامية لكونه الحاكم الفعلي للعراق.
والأمر الثاني يتعلق بنجاح إيران في خداع "عادل عبد المهدي" وإقناعه بأنَّ بعض الدول وفي مقدمتها الولايات المتحدة وأنصار الرئيس الراحل "صدام حسين" يرغبون جميعًا في النيْل منه؛ ولذا تآمروا ضده لإزاحته من خلال التظاهرات الشعبية الواسعة.
وقد تجاوزت مليشيات الحرس الثوري الإيراني حد التأثير على الحكومة العراقية إلى مرحلة أبعد من هذا تتمثَّل في التحكُّم في النخبة العراقية الحاكمة؛ فطهران في الفترة الآنية تستطيع وبكل سهولة إرسال جنرالات إلى العراق لقمع المتظاهرين العراقيين وإغلاق المجال الجوي في وجه الطائرات العسكرية الأمريكية والإشراف على قتل المئات من المدنيين دونما أدنى خوف من المساءلة والمحاسبة.
لقد أضحى الشغل الشاغل لقوات الحرس الثوري الإيراني حماية النخبة السياسية والاقتصادية الفاسدة في العراق وتأمين مصالحها ومن ثم فأولويتها الآن هي قمع التظاهرات الشعبية وعرقلة أية محاولة للتغيير السياسي.
دعائم التغيير السياسي الذي تنشده الولايات المتحدة
إنَّ المرحلة الراهنة هي مرحلة مهمة ودقيقة في تاريخ السياسة الخارجية الأمريكية إزاء العراق، وهذا يفرض على الولايات المتحدة أنْ تقرِّر ما تريده وما لا تريده بوضوح وفقًا لمصالحها.
وفي هذا الصدد، يقدِّم الكاتب جملة من التوصيات حول أبرز مرتكزات التغيير السياسي الذي تأمل الولايات المتحدة في العراق، وهي ثلاثة دعائم أساسية؛ أولها دعم التغيير السياسي المنظَّم ذي الطبيعة التدرُّجية وليست الراديكالية، والذي يتضمَّن تغييرًا جوهريًا في الأسس الدستورية والتشريعية العراقية.
وهذا الأمر يفترض وجود قيادة للحراك الشعبي العراقي لأنَّ استمرار الحراك بلا قيادة لن يؤدي إلى شيء سوى العنف والفوضى. ولذا على الولايات المتحدة والمجتمع الدولي أنْ يدعما وجود قيادة حكيمة يمكنها أنْ تمثِّل المحتجين في عملية التفاوض.
وتتمثَّل الدعامة الثانية للتغيير السياسي العراقي المنشود أمريكيًا في ضرورة أنْ يكون سلميًا بعيدًا عن أحداث الشغب والتخريب؛ فالمستفيد الأكبر من تخلي المتظاهرين عن السلمية هي الميليشيات العراقية المدعومة من إيران ذلك لأنَّ جر المتظاهرين إلى العنف والشغب يُفْقِدهم تعاطف المجتمع الدولي.
وفي هذا الصدد، أوضح الكاتب أنَّ الولايات المتحدة لم ترَ هجوم المحتجين على السفارة الإيرانية في بغداد على أنَّه عمل عنيف بل صنَّفته باعتباره "انتقامًا ناعمًا" شبيهًا باقتحام طلاب من أنصار الثورة الإيرانية مقر السفارة الأمريكية في طهران واحتجاز موظفيها كرهائن قبل نحو أربعة عقود.
أما المرتكز الثالث للتغيير السياسي العراقي يتمحور حول الدعم الأمريكي القوي لإجراء انتخابات عادلة سواء أُجْريت العملية الانتخابية في عام 2020 أو 2022، رغم أنَّ التوقعات تتجه إلى إجراء انتخابات عراقية مبكرة في عام 2020، وعلى الولايات المتحدة دعم قانون انتخابي جديد، وقانون جديد للأحزاب وإشراف دولي لضمان نزاهة العملية الانتخابية.
وختامًا، يوكِّد الكاتب على ضرورة بذل الولايات المتحدة جهودًا دؤوبة لحشد الدعم الدولي ضد الانتهاكات الحقوقية التي تمارسها طهران ووكلاؤها في النخبة الحاكمة بحق المتظاهرين العراقيين بما يدعم الوقف الفوري لمثل تلك الانتهاكات وضمان تفعيل قواعد المساءلة والمحاسبة للمسئولين عنها.
وثمة قضايا أساسية لابد أنْ تأتي في أولوية الجهد الأمريكي في الوقت الراهن، ألا وهي الوقف الفوري لقنص المتظاهرين العراقيين، واستخدام الغاز المسيل للدموع فضلًا عن ضرورة حماية المحطات التليفزيونية العراقية التي تبث تطوُّرات المشهد العراقي وتوفير الحماية لمن يقودون التظاهرات، والتعاون مع المكاتب الإقليمية للمنظمات الحقوقية والإنسانية لردع الانتهاكات الإيرانية.