روسيا مستفيدة من الوضع الاقتصادي الهش في تركيا؛ لكي تسلب الرئيس التركي المزيد من التنازلات في الملف السوري.
انتهت روسيا- أو تكاد- من مهمتها العسكرية في سوريا، باستثناء مدينة إدلب في الشمال السوري التي مازالت حتى اللحظة مثار بحث بين الأطراف الدولية المعنية بالأمر، والضامنة لاتفاق التهدئة بين روسيا وتركيا وإيران.
الملاحظ في الآونة الأخيرة كثرة التصريحات التركية عن مدينة إدلب، ففي الوقت الذي تطمئن فيه أنقرة سكان بعض المناطق الذين لا يرون مشكلة بوجود القوات التركية في أرضهم، يعلو صوت وزير الخارجية التركي مولود شاويش أوغلو بأنّ بلاده لا يمكن لها توفير الحماية الكاملة للمدينة في ظل وجود عناصر إرهابية، واللافت أنّ كلامه جاء خلال مؤتمر صحفي مع نظيره الروسي سيرجي لافروف الذي قال في المؤتمر ذاته بأنّه من حق الجيش السوري مطاردة الإرهابيين في أي بقعة سورية في إشارة واضحة لـ"مدينة إدلب"، فهل تريد روسيا فتح معركة إدلب؟
أنقرة لن تجد مشكلة بوضع ذريعة ما لسحب قواتها من المنطقة وترك عناصر المعارضة بمن فيهم "جبهة النصرة" مواجهة مصيرهم أمام موسكو ودمشق، كما حدث في حلب من قبل، خاصة أنّ المجتمع الدولي يبحث عن "رأس النصرة" في المدينة باعتبارها التنظيم المتطرف المطلوب دوليا
المراقب للمشهد العسكري المحيط بالمدينة يجد أن دمشق بالفعل حشدت قواتها، وهيأت قادتها العسكريين للبدء بمعركة إدلب متسلحة بانتصارات على مساحة سوريا، كان آخرها في الجنوب بالسيطرة عليه وطي ملفه بشكل كامل.
في المقابل، ترفد أنقرة قواتها الشرطية الموجودة في بعض مناطق المدينة كجرجناز والصرمان شرق إدلب بأخرى، وحركت عتادا عسكريا جديدا في المنطقة ودبابات متطورة كذلك، والهدف من كل هذا على ما يبدو ليس مواجهة عسكرية بين أنقرة ودمشق على الإطلاق، وإنّما انتزاع المدينة من يد جبهة النصرة وتقسيمها إلى مناطق نفوذ سوري تركي برعاية روسية، وإبعاد الإيرانيين عن ملف المدينة الذين يستفز وجودهم ليس أبناء إدلب فحسب، وإنّما نسبة كبيرة من السوريين.
بالعودة للتصريحات التركية نجد أن المسؤولين الأتراك تحدثوا غير مرة بأنّهم لن يسمحوا للقوات السورية بالتقدم في المدينة، ما دامت قواتهم موجودة هناك، وهنا تكمن النقطة التي من خلالها تمضي روسيا مستفيدة من الوضع الاقتصادي الهش في تركيا، لا كي تقدم المزيد من الإغراءات للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بل لتسلبه المزيد من التنازلات في الملف السوري على وجه التحديد.
أنقرة لن تجد مشكلة بوضع ذريعة ما لسحب قواتها من المنطقة، وترك عناصر المعارضة بمن فيهم "جبهة النصرة " لمواجهة مصيرهم أمام موسكو ودمشق، كما حدث في حلب من قبل خاصة أنّ المجتمع الدولي يبحث عن "رأس النصرة" في المدينة باعتبارها التنظيم المتطرف المطلوب دوليا، لذلك بات الملف السوري لا يشغل وزارة الخارجية الروسية فحسب وكبير دبلوماسييها سيرجي لافروف، بل نجد أنّ الرئيس بوتين بات يتحرك بشكل شخصي في هذا الشأن، وهذا له دلالات كبيرة، فالرجل يبحث عن أطراف أخرى تعينه أو تدفع له ثمن حربه في سوريا، من خلال برنامج إعادة الإعمار، وهذا ما بحثه مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في ألمانيا طالبا عودة اللاجئين السوريين إلى بلدهم.
في الواقع يلعب الرئيس الروسي على أكثر من حبل، فهو يَعد ألمانيا بتنظيم مناطق سورية وتجهيزها لاستقبال الأعداد الكبيرة من المهاجرين التي لا يمكن الاستفادة منها في ألمانيا، وتشكل عبئا على اقتصاد الحكومة هناك، من خلال علاقته وقدرته على فرض أمور تخدم مشروعه ورؤيته للحل في سوريا.
من جهة أخرى، يسحب ملف إدلب من يد تركيا ليعطيها بدلا من ذلك تطمينات في الشأن الاقتصادي، وفتح السوق الروسية أمام المنتجات التركية وبالعكس، وهذا ما سيقود الرئيس التركي إلى بيع "رأس أبي محمّد الجولاني وزبانتيه" بالليرة التركية لنظيره الروسي إن لم نقل الملف السوري برمته، والبدء بالتحضير التدريجي لمسألة التطبيع بين الحكومتين التركية والسورية على وجه يخدم المصالح الروسية، ويزيد من عدد الدول الراغبة بالانتهاء من مأساة العصر كما سُميت "الأزمة السورية" وتبعاتها على العالم بأكمله وليس على السوريين فحسب.
يبقى الحبل الأمريكي الذي يبدو طويلا جدا، ويحاول زعيم الكرملين تقطيعه إلى أجزاء وصنع عُقدٍ متتالية فيها، ليسهل له قضمه من خلال تخويف الأمريكيين بشكل دائم من خطر التنظيمات الإرهابية وضرورة المساعدة والتنسيق بين واشنطن وموسكو في ذلك، مستفيدا من حالتين اثنتين في هذا الشأن.
الأولى نظرة الداخل الأمريكي الذي يرى إلى حد ما نجاحا روسيّا في سوريا بالقضاء على المتطرفين، وإن كان على حساب تشريد الكثير من المدنيين مقارنة بالتدخل الأمريكي في العراق الذي لايزال حتى اللحظة شبه مهدد بأمنه واستقراره.
الثانية عدم وجود البديل المناسب للنظام في سوريا، وهذا ما يقلق الجانب الأمريكي الذي ما عاد الملف السوري يشكل له أهمية كبرى، لذلك تمّ تعيين السفير الأمريكي السابق في العراق جيم جيفري مستشارا لوزير الخارجية مايك بومبيو؛ للاهتمام بهذا الشأن، وعلى وجه التحديد محادثات جنيف ومسألة بحث مصير الرئيس السوري.
نستطيع القول بأنّ كلّ الظروف الدولية تتجه لتتهيأ دفعة واحدة نحو حلٍ سياسي يضمن بقاء المنظومة السورية القائمة مدة لا تتجاز ولاية الرئيس بشار الأسد الحالية عام 2021، وعودة الجزء الأكبر من اللاجئين وإعطاء المعارضة الباحثة عن حل يحقن الدم السوري ويخفف آلامه حصة لا بأس بها من الحكم التنفيذي بذهاب منصب رئاسة الحكومة إلى رجل تزكيه روسيا، ويكون مقبولا عربيا، ولا مشكلة للسوريين معه معارضة كانوا أو موالاة، ريثما تأتي لحظة تكون الكلمة الفصل فيها للسوريين أنفسهم من دون تدخل خارجي بخوض انتخابات رئاسية وبرلمانية تحدد من سيحكم سوريا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة