هل قطر فعلا ضحية لإجراءات دول المقاطعة، أم هي ضحية سياساتها التي انتهجتها على مدى ما يقرب من 20 عاما؟
هناك موقف يتبلور ممن يتبنون ما أُسميه "الحياد السلبي"، وليس الحياد الإيجابي الذي أطلقه عبد الناصر أيام الحرب الباردة، بل هو حياد سلبي مغلّف بتفوق أخلاقي يدّعي أنه وفي الأزمة بين قطر ورباعية المقاطعة أن قطر ضحية لا ذنب لها في الأزمة الخليجية الحالية. فهل قطر فعلا ضحية لا لوم عليها كما جاء في خطاب الشيخ تميم الأخير، أم أن قرارات دول المقاطعة هي نتيجة طبيعية لتبعات السياسة الخارجية القطرية؟ في تصوري أن هذه المساحة الضبابية للحياد السلبي المصحوب بالتفوق الأخلاقي تحتاج إلى فرز حتى نتبيّن السراب من الماء في صحاري العرب الفكرية والأخلاقية.
"الحياد الإيجابي وعدم الانحياز" كان مفهوما ناصريا لتجنب اتخاذ موقف واضح بين روسيا وأمريكا أثناء الحرب الباردة، ولم يكن حياديا أو إيجابيا بل كان انحيازا للمعسكر الاشتراكي، ولكن دونما دفع ثمن هذا الانحياز لأنه مغطى بالحياد، وتشكل للحياد الإيجابي ائتلاف من الدول عرف بحركة عدم الانحياز بقيادة نهرو وتيتو وناصر. لا أدعي أن حركة مثل حركة عدم الانحياز ستتبلور تجاه الأزمة القطرية، ولكن هناك حركة اجتماعية ربما لم يشرح لها الأمر بوضوح تتبنى موقف الحياد السلبي وليس الإيجابي تجاه الأزمة بين قطر ورباعية المقاطعة المتمثلة في مصر والسعودية والإمارات والبحرين، حياد هو في أساسه انحياز لقطر دونما أن يسمى بذلك بوضوح. في هذا المقال سأحاول رفع الغطاء عن هذا الموقف، حتى لا ندخل في نفق الحياد الكاذب وأحاديثه الملتوية ومنطقه الأعوج.
مرة أخرى هل قطر فعلا ضحية لإجراءات دول المقاطعة، أم هي ضحية سياساتها التي انتهجتها على مدى ما يقرب من 20 عاما؟
قطر اليوم تتحمل تبعات ما يُعرف بالتمدد خارج نطاق قوتها أو "over stretching"، وهذا لا ينطبق على دولة صغيرة جدا مثل قطر، بل التمدد يؤذى الدول العظمى أيضا، وهذا ما حذر منه كثيرون في الولايات المتحدة عندما دخلت أمريكا حربين في أفغانستان والعراق في الوقت ذاته، وبالفعل نتيجة هذا التمدد الأمريكي في أفغانستان والعراق، إضافة إلى التزامات أمريكا في آسيا أوروبا؛ وصلت أمريكا إلى هذا الحال من الوهن، فإذا كانت الدولة العظمى الوحيدة لا تستطيع أن تدفع فاتورة التمدد خارج نطاق القوة، فما بالك بدولة صغيرة مثل قطر لا تتدخل على جبهتين فقط مثل أمريكا، بل تتدخل في تونس وليبيا ومصر واليمن والعراق وسوريا، أي أن تدخلاتها الخارجية أكبر من التدخل الروسي؛ فحتى النخب الروسية اليوم تتحدث عن مخاطر التدخل في سوريا وتقارنها بمستنقع أفغانستان في السبعينيات، فإذا كان التمدد يقلق الدول العظمى، أليس من المنطقي أن يكون التمدد القطري في 5 دول سببا كافيا لإقناع "جماعة الحياد السلبي" بأن قطر تعاني من تبعات هذه الرعونة في السياسة الخارجية وليس من تبعات مقاطعة الرباعية الإقليمية؟
قطر هي دولة صغيرة تعاني من كل أعراض الدول الصغيرة في عالم يوصف بأن على كل دولة أن تساعد نفسها (self help)، أي أن تبني تحالفات مختلفة للحفاظ على بقائها. إن قدرة الدول الصغيرة في النظام العالمي المتسم بالفوضى على التكيف والبقاء كانت دائما سؤالا يشغل دارسي العلاقات الدولية، ومع هذا السؤال أسئلة كثيرة عن السياسة الخارجية للدول الصغيرة وقدرتها على الاستقلالية عن الدول المهيمنة، سواء في النظام العالمي المجمل أو في الأنظمة الإقليمية الفرعية. وتبعات التمدد بالنسبة للدول الصغيرة كارثية دائما حتى التي كانت من أكثرها قوة مثل إسرائيل. إسرائيل كدولة صغيرة خرجت من جنوب لبنان ومن غزة، ليس نتيجة نبل في موقفها ضد الاحتلال، ولكن تكلفة التمدد خارج نطاق القوة أجبرتها على ذلك، وقطر ليست استثناء بالنسبة لتبعات السياسات المتهورة للدول الصغيرة.
أيا كانت قدرات قطر المالية؛ فإن قدراتها البشرية كدولة لا تؤهلها للقيام بكل هذه الأدوار الإقليمية والعالمية، وإن وهم حالة التماهي بين قناة الجزيرة في عالمها الافتراضي الناعم، وبين قطر في عالمها الواقعي في العالم القاسي للعلاقات الدولية؛ هو وهم يؤدي إلى هذه التبعات؛ فمصر والسعودية والإمارات والبحرين عندما تغضب على الجزيرة وتغلق مكاتبها فهذا لا يكلف قطر كثيرا، أما إغلاق السفارات وقطع العلاقات الدبلوماسية فله تبعات حقيقية. ما يحدث في عالم الواقع لا يمكن معالجته في العالم الافتراضي، أي عالم تلفزيون الواقع.
إن ما تقوم به قطر لا يختلف كثيرا عما كان في القرن العشرين من استضافة المعارضات وحكومات المنفى بين الدول، وكلها لها تبعات من قبل الدول التي تعاني من مثل هذه السياسات. وجود قيادة جماعة الإخوان على أرض قطر والدعم الذي تتلقاه الجماعة من قطر مثلا يمثل تهديدا بالنسبة لحكومة الرئيس عبد الفتاح السيسي، ومن هنا يكون طبيعيا أن تتخذ الحكومة المصرية موقفا تجاه قطر من هذا المنطلق. هذا مجرد مثال بسيط لتوضيح الفكرة.
كما أن ما تقوم وقامت به "الجزيرة" -وهي قناة مملوكة للحكومة القطرية- من دعم وترويج وتبرير لأعمال العنف في المنطقة منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول حتى الآن؛ يجعل الدول المتأثرة بتبعات هذا الترويج والتبرير تتخذ مواقف تحمي بها نفسها. جماعة الحياد السلبي لا ترى في سلوك قطر خلال ما يقرب من 20 عاما شيئا يستحق هذا العقاب، والحقيقة هي أن التدخل القطري في كل شمال إفريقيا ومصر واليمن وسوريا كله كان دعما ماليا ولوجيستيا لجماعات تشن حروبا على المجتمعات في هذه الدول. إنه لأمر محمود أن تراجع جماعة الحياد السلبي والتفوق الأخلاقي السياسات القطرية خارج الحدود ولهم أن يحكموا بأنفسهم، أما المتشدقون بحرية التعبير، الذين سحرهم الوهج الأزرق لقناة الجزيرة؛ فإنني أحيلهم إلى القوانين الحاكمة للإعلام الداخلي في إمارة قطر، الذي يعد من أكثر القوانين إجهاضا لحرية التعبير في العالم.
من صفحة هيومن رايتس ووتش: "ينبغي ألا يوافق حاكم قطر على مشروع قانون الأنشطة الإعلامية، ما لم تُلغَ منه الأحكام فضفاضة الصياغة الخاصة بانتقاد الحكومة القطرية. يعاني مشروع القانون من ازدواجية المعايير فيما يتعلق بحرية التعبير، وهو ما لا يتفق مع دعاوى قطر بأنها مركز لحرية الإعلام في المنطقة".
أعتقد بعد قراءة القوانين الحاكمة للإعلام داخل قطر قد تغير جماعة الحياد السلبي موقفها وتنزل قليلا من على صهوة جواد التفوق الأخلاقي.
نقلا عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة