الروائي محمد حياوي يكتب.. عندما خذل مدفع عملاق طفلا في العراق
ذكريات رمضانية 2 عن الإفطار قرب نهر الفرات
الحلقة الثانية من "ذكريات رمضانية" التي تفتح فيها "العين الإخبارية"خزانة ذكريات المبدعين العرب عن طفولتهم وأجواء شهر رمضان في بلدانهم.
عندما كنا صغاراً، كان رمضان بالنسبة لنا طقسًا للفرح والمسرّات وتناول الحلويات والسهر مع العائلة والأقارب والأصدقاء حتى ساعات الفجر الأولى. وكانت الطقوس والتقاليد الحميمة توطد إحساسنا بالطفولة البريئة، ومن المصادفات الغريبة، أن نقطن بالقرب من شاطئ نهر الفرات، حيث نصبت الحكومة منصّة لمدفع الإفطار العملاق الذي كان يلهب مخيلتنا بشكله الحديدي الضخم وعجلاته الكبيرة.
كانت فوهته موجهه نحو الشرق البعيد، وكان طاقمه المكون من ثلاثة جنود وعريف عجوز يقيمون صلاتهم على الجرف الطيني، بينما نقف نحن حاملين أطباق طعام الفطور الذي تبعثه أمهاتنا لهم. ذلك الطقس كان مزيجاً من الترقب المشوب برائحة الطعام الفائحة من الأطباق والقدور التي نحملها وصوت البسملة وتلاوة الآيات التي يردّدها العريف العجوز والجنود الثلاثة المصطفون خلفه، وصوت طيور الغاق الناعقة فوق النهر وهي ترسم أقواسها الكبيرة في سماء المدينة، وعندما ينهي الجنود صلاتهم..نقدّم لهم أطباق الطعام التي كانت في الغالب تفوق حاجتهم، فيرفعون بعضه للسحور في صندوق خشبي يعتليه قالب كبير من الثلج الملفوف بقطعة من الجوت، كانوا غالباً ما يدعوننا لمشاركتهم الطعام، لكنّنا نعتذر منهم بأدب جم بناءً على توصيات مشدّدة من أمّهاتنا، فنجلس بعيداً عنهم حتى ينهوا فطورهم ونعيد الأطباق والقدور الفارغة إلى بيوتنا.
كان أغلب الجدل يتمحور حول تلك القنبلة الكبيرة التي أطلقها المدفع! أين سقطت؟ وهل تسببت بأضرار للقرى البعيدة في الشرق عند تخوم الأهوار. كان بعضنا يعتقد بأنها تُطلق نحو السماء ولن تسقط أبداً؛ لأن الملائكة الصالحة تلتقطها وتذهب بها بعيداً عن الناس، والبعض الآخر يعتقد أنها تُطلق باتّجاه الأراضي الإيرانية أو في عمق الصحراء، وآخرون اعتقدوا أنها تسقط في النهر فيكتم انفجارها الماء.
وعندما نعود إلى بيوتنا ونستلقي ليلاً على أسرّتنا فوق السطوح، نفكر في تلك القنبلة التي تلهب مخيلاتنا الصغيرة، وأحياناً أتسلل خلسة باتّجاه النهر لأراقب طاقم المدفع لعلّي أكتشف السرّ وأشبع فضولي النهم، فأجدهم يمارسون تدريبهم العسكري واضعين بنادقهم الطويلة على أكتافهم ويمشون مشية عسكرية على وقع هتاف العريف.. "يس.. يم.. يس.. يم.. يس.. يم.. إلى الوراااااء درررر".. فاستغل انشغالهم في التدريب واقترب من كتلة المدفع الضخمة واتحسس حديدها البارد وأجوس بنظري في الموضع بحثًا عن تلك القنابل الكبيرة التي يطلقونها دون جدوى، وحين يلمحني العريف من بعيد، يطلب منِّي الابتعاد، فابتعد واجلس القرفصاء تحت ظل نخلة سامقة، وعندما ينتهي الجنود من تدريبهم اليومي، يقترب العريف منِّي ويجلس بجانبي ويحدثني بمودّة "هل أنهيت دروسك؟.. لِمَ لا تذهب إلى المنزل لترتاح في هذه الظهيرة القائظة ثم تأتي مساءًا مع أصحابك؟" فأخبره عن إعجابي بالمدفع العملاق وأمنيتي بأن أطلق قنبلة منه، فيضحك العريف بملء شدقيه، ويقول: "سيطيرك العصف عشرة أمتار يا بني بجسدك النحيل هذا". لكن الصدمة الكبرى كانت عندما سألته عن تلك القنبلة الكبيرة التي يطلقونها يومياً وأين تسقط؟ عندها، وضع ذراعه حول كتفي وقال: "إنها قنبلة صوتية وحسب! ماذا اعتقدت؟ إننا نطلق قنابل حقيقية على الناس؟" وواصل ضحكته المجلجلة.
قنبلة صوتية؟! تساءلت في سريّ، كيف يكون ذلك؟ كل هذا الصوت العظيم دون أن تنطلق قنبلة كبيرة وتخترق الآفاق؟ عندها عدتُ شبه محبط إلى المنزل وأنا أتحرق لقدوم المساء كي التقي أصحابي وأخبرهم بحقيقة ذلك المدفع الذي يطلق قنابل صوتية، وأن كل جدالهم في شأن تلك القنبلة لا صحة له، لكن المساء تأخر كثيراً وفضولي المشوب بخذلان ذلك المدفع كان كبيراً جداً في الحقيقة. تلك كانت ذكرى طفولية بعيدة من رمضان.
aXA6IDMuMTIuMTUyLjEwMiA= جزيرة ام اند امز