اللاجئون في ألمانيا.. تلاقي الاعتبارات الإنسانية والمصالح الوطنية
هناك عدد من العوامل ترسم ملامح السياسة الألمانية تجاه استقبال اللاجئين، أهمها متطلبات اقتصاد البلاد وصورتها في المجتمع الدولي.
جددت ألمانيا على لسان وزير الداخلية هورست زيهوفر، نيتها استقبال 25% من اللاجئين الذين يصلون للشواطئ الإيطالية عن طريق البحر، مؤكدا أن بلاده تفعل ذلك لاعتبارات إنسانية، وأن الأمر لن يكون إثقالا على سياسة الهجرة التي تتبعها بالفعل.
ويأتي تأكيد الموقف الألماني في وقت يشهد فيه ملف الهجرة تجاذبات عدة بخصوص قضية اللجوء إلى أوروبا بصفة عامة، الأمر الذي ربما يستدعي إلقاء الضوء على مضمون السياسات الألمانية تجاه اللاجئين، وأبرز المحددات المؤثرة في تلك السياسات.
أوضاع اللاجئين في ألمانيا
وفقا لمكتب الإحصاء الاتحادي في ألمانيا وصل عدد اللاجئين وطالبي اللجوء حتى نهاية عام 2018 إلى نحو 1.8 مليون شخص، منهم 1.3 مليون حاصلون على حق الإقامة، غالبيتهم سوريون وعراقيون وأفغان، ما يمثل زيادة قدرها 6% مقارنة بالعام الذي سبقه، أي ما يعادل 101 ألف شخص. كما تشير بيانات المكتب إلى أن عدد الأشخاص الذين لم يتم البت في طلبات لجوئهم بلغ 306 آلاف شخص حتى نهاية 2018، وهو ما يقل بـ269 ألف حالة مقارنة بعام 2016 الذي بلغت فيه نسبة تقديم طلبات اللجوء ذروتها. ويعود السبب في ذلك، إلى تسريع إجراءات البت في طلبات اللجوء والانخفاض المستمر في عدد طلبات اللجوء الجديدة، علماً أن هناك زيادة ملحوظة في عدد الباحثين عن الحماية في ألمانيا غالبيتهم من تركيا (14 ألفا) وإيران (21 ألفا).
ويتمتع اللاجئون وطالبو اللجوء في ألمانيا بمصفوفة من الحقوق تميل إلى تحسين أوضاعهم وسرعة إدماجهم في المجتمع الألماني، فعلى سبيل المثال يتم إلغاء الإقامة الجبرية -التي تحدد حركة اللاجئين في البلد- بعد ثلاثة أشهر من الإقامة، بحيث يصبح اللاجئون قادرين على السفر بحرية داخل البلاد ابتداء من الشهر الرابع لإقامتهم، ولكنهم يتلقون المساعدات الاجتماعية من الدائرة التي تم تسجيلهم فيها فقط، ويمكن تغيير هذا الوضع في حال انتقال العائلة إلى مكان سكن آخر أو الالتحاق بسوق العمل.
كذلك شهدت ألمانيا تعديلات في منظومتها التشريعية، بحيث سُمح للاجئين بالحصول على دعم من جانب الدولة في صورة الأموال بدلاً من كوبونات الأكل والمعونات العينية، والمبلغ الذي يحصلون عليه هو نفس المبلغ الذي يحصل عليه العاطل عن العمل من الفئة الثانية، حيث يحصل الشخص على مبلغ شهري يصل إلى 359 يورو إلى جانب توفير الدولة لمحال الإقامة. وفي حال مرور أكثر من 15 شهراً على إقامة اللاجئ في ألمانيا أو الاعتراف بحقه باللجوء فيتلقى مبلغ 399 يورو شهريا.
وشملت التعديلات أيضا تقليص المدة التي لا يسمح فيها لطالبي اللجوء بالعمل من 9 أشهر إلى 3 أشهر فقط، ومع الاعتراف بأن إيجاد فرصة عمل للاجئين يعتمد بالدرجة الأولى على عدم تقدم أي مواطن ألماني أو أوروبي لهذه الوظيفة، يجب التذكير بأن هذا الوضع ينتهي بعد مضي 15 شهراً على إقامة اللاجئ في ألمانيا. كما عمدت الحكومة للحد من قلق اللاجئين من الترحيل عبر سن قانون "2+3" الذي يمكن طالبي اللجوء المرفوضين من الاستمرار في التدريب لمدة ثلاث سنوات، والعمل لسنتين على الأقل دون الخوف من الترحيل.
تجدر الإشارة إلى أن ألمانيا وافقت مسبقاً على إعادة توطين 10200 لاجئ خلال عامي 2018 و2019، يتم اختيارهم من قبل مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. كما أطلقت الحكومة الألمانية في مايو/أيار الماضي 2019 برنامجاً جديداً يحمل اسم "بداية جديدة في فريق"، لإحضار 500 لاجئ إلى ألمانيا، بالتعاون مع فريق مكون من 5 مرشدين يدعم اللاجئين في عملية الاندماج بالمجتمع.
محددات السياسات الألمانية تجاه استقبال اللاجئين
هناك عدد من العوامل ترسم ملامح السياسة الألمانية تجاه استقبال اللاجئين، يمكن استعراض أبرزها فيما يلي:
متطلبات الاقتصاد الألماني
تبرز تقارير عدة تؤكد حاجة الاقتصاد الألماني لدماء جديدة، خاصة في مجال الأعمال الحرفية التي تعرض عنها الأيدي العاملة الألمانية، فمع انخفاض معدلات البطالة في ألمانيا إلى أدنى معدلاتها منذ 30 عاما، فقد الشباب الألمان رغبتهم في التدريب المهني والانخراط في المهن الحرفية التي يحتاج إليها اقتصاد البلاد، ففي العام الماضي، أعلنت ثلث الشركات الألمانية أن لديها وظائف تدريب لم يشغلها أحد، فيما بلغت الوظائف الشاغرة أعلى مستوى لها منذ 20 عاما.
من ثم، تتجه غالبية هذه الشركات إلى اليد الوافدة المدربة بعد إخضاعها لنظام التدريب المهني، فمع نهاية عام 2018 وصل عدد المسجلين في برنامج التدريب على العمل لأكثر من 400 ألف شخص، ويتخرج من هذا البرنامج كل عام مئات الآلاف من الحرفيين البارعين بعد اجتياز اختبارات صارمة تديرها الدولة. إلى جانب خضوع أعداد كبيرة من اللاجئين لدورات الاندماج واللغة.
وفي الوقت نفسه تستفيد ألمانيا من التركيبة الديموغرافية للوافدين الجدد، فحوالي 60% تقل أعمارهم عن 25 عاما، ومع انخفاض عدد السكان الألمان الأصليين، فإن ألمانيا بحاجة لهؤلاء الشباب لتجديد شبابها.
البعد الإنساني وصورة ألمانيا في المجتمع الدولي
حرصت ألمانيا في عهد المستشارة أنجيلا ميركل على رسم صورة لها تجمع بين القوة والمثالية، مع الاهتمام بشكل خاص بالقيم والاعتبارات الإنسانية، يتجلى هذا الأمر بصفة خاصة في قضية اللاجئين، حيث قامت ميركل في سبتمبر/أيلول 2015 بفتح حدود بلادها لفترة وجيزة أمام اللاجئين من غير حاملي الوثائق، وهو ما اعتبرته التزاما من بلادها بواجباتها الإنسانية والأوروبية، مؤكدة أن تلك السياسة حالت دون وقوع كارثة إنسانية، كما تؤكد ميركل دائما أن ألمانيا لا يمكنها أن تهتم فقط برفاهيتها بل إنها جزء من العالم.
تجاذبات الداخل الألماني على خلفية قضية اللاجئين
أثارت سياسة ميركل للجوء جدلا واسعا في البلاد، وصلت حدته إلى درجة تهديد تماسك الائتلاف الحاكم في البلاد، فخلال عام 2018 نشب خلاف بين ميركل زعيمة الحزب المسيحي الديمقراطي آنذاك، ووزير داخليتها هورست زيهوفر رئيس الحزب الاجتماعي المسيحي، وصل إلى حد تهديد زيهوفر بتقديم استقالته من الحكومة. ورغم نجاة الحكومة الألمانية من تلك التوترات لا يزال المشهد السياسي الألماني يعيش تبادلا للانتقادات والاتهامات بين المسؤولين الألمان حول سياسة اللجوء.
من ناحية ثانية، يتوقع أن تشهد سياسة ألمانيا تغيرا بخصوص الهجرة، مع مقدم زعيمة الحزب المسيحي الديمقراطي الجديدة أنجريت كرامب-كارينباور التي يبدو أنها ترسم سياسة لجوء جديدة تختلف عن سياسة ميركل؛ فقد أعلنت على سبيل المثال أنها لا تستبعد إغلاق الحدود في وجه طالبي اللجوء في الحالات الطارئة، مثلما حصل عام 2015، مشيرة إلى الحاجة لنظام ذكي لحماية الحدود.
مواقف الشركاء الأوروبيين ودول الجوار
اتفقت دول الاتحاد الأوروبي بعد موجة اللجوء التي شهدتها عام 2015، على تقاسم أعباء اللاجئين وإعادة توزيع 160 ألف لاجئ استقبلتهم اليونان وإيطاليا على باقي دول الاتحاد، بيد أن الاتفاقية انتهت في سبتمبر/أيلول عام 2017، بتوزيع 25 ألف لاجئ فقط. ما أدى لنشوب خلافات عدة بين أعضاء الاتحاد حول تحمّل المسؤوليات المتفق عليها، كما رفضت إيطاليا ومالطا مؤخرا وبصفة دائمة السماح للسفن التي تحمل على متنها مهاجرين تم إنقاذهم من عرض البحر بالدخول إلى موانئهما، ما يدفع هؤلاء المهاجرين للبقاء على ظهر السفينة أسابيع عديدة في ظروف غير مواتية، الأمر الذي يزيد من الأزمة الأخلاقية والإنسانية التي تواجهها ألمانيا كفاعل في الاتحاد الأوروبي الذي لا يزال يحاول إيجاد صيغة جديدة لاستقبال منظم للاجئين خلال جولة جديدة من المفاوضات ستعقد بمدينة فيتوريوسا الإيطالية في 23 سبتمبر/أيلول الجاري، أملا في بلورة مقترح متكامل يقدم إلى مجلس أوروبا في أكتوبر/تشرين الأول المقبل.
كما تتأثر سياسة اللجوء الألمانية بمواقف دول الجوار المعنية بملف اللاجئين وتحديدا تركيا، فرغم توقيع اتفاق بين الاتحاد الأوروبي وتركيا عام 2016 ينص على إعادة المهاجرين إلى تركيا، إذا تبين انتقالهم بشكل غير شرعي للجزر اليونانية ولم يحصلوا على لجوء في اليونان (بالمقابل، يستقبل الاتحاد الأوروبي من تركيا مقابل كل سوري معاد إليها سوريا آخر مقيما على نحو شرعي في تركيا)، رغم ذلك فسياسات تركيا في هذا السياق تثير كثيرا من الجدل لاسيما مع حملات الترحيل القسرية للاجئين السوريين، وتهديدات الرئيس التركي أردوغان بفتح الحدود أمام اللاجئين السوريين للتوجه نحو أوروبا، فضلا عن تزايد وتيرة تدفق القوارب في بحر إيجة التي تحمل على متنها مهاجرين من تركيا إلى الجزر اليونانية، والتي قدرت بـ8103 مهاجرين خلال أغسطس/أب الماضي فقط.
ولعل التفاعل بين هذه المتغيرات الإقليمية هو ما دفع برلين لعقد اتفاقيات ثنائية بموجبها يتم إعادة طالبي اللجوء الذين يتم ضبطهم على الحدود الألمانية، حيث دخلت الاتفاقية التي عقدتها ألمانيا مع إسبانيا حيز النفاذ في أغسطس/أب 2018، بعدها بوقت قصير جاءت اتفاقية مماثلة مع اليونان، كما أعلن وزير الداخلية الألماني هورست زيهوفر عن اتفاقية مماثلة مع إيطاليا.