لا تزال إسرائيل تحتل موقعاً فريداً في المشهد السياسي والعسكري للشرق الأوسط، إذ تجمع بين عقيدة أمنية هجومية، وقدرات تكنولوجية متقدمة، وتحالفات استراتيجية محورية، وعلى رأسها العلاقة الوثيقة مع الولايات المتحدة.
هذا التفرد جعلها في نظر كثيرين دولة استثنائية من حيث قدرتها على فرض معادلات جديدة في المنطقة، لكن في نظر آخرين، هو تجلٍ واضح لسياسات الهيمنة وفرض الأمر الواقع، بعيداً عن منطق الشراكة والتكامل الإقليمي والردع الصارم. دروس حروب 1948 و1967 و1973 جعلت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تؤمن بأن أي تهديد يجب القضاء عليه قبل أن يتبلور. هذه العقيدة لم تتغير رغم تغير طبيعة التهديدات، بل تطورت لتشمل أدوات جديدة، كالذكاء الاصطناعي، والأنظمة السيبرانية، والطائرات من دون طيار، ما جعل إسرائيل من بين الدول القليلة التي دمجت هذه القدرات بشكل روتيني في عملياتها العسكرية.منظومة «القبة الحديدية» باتت رمزاً للتفوق الإسرائيلي في تكنولوجيا الدفاع، خاصة في صد الصواريخ قصيرة المدى، كما ظهر في حروب غزة. إلا أن الأحداث الأخيرة في 2024 و2025، خصوصاً الهجمات بالصواريخ الفرط صوتية من إيران أو «الحوثيين»، كشفت محدودية هذه المنظومة في مواجهة تهديدات متطورة، مما أعاد طرح تساؤلات حول فعالية الردع الإسرائيلي في مواجهة ما يسمى «محور المقاومة».
ومع وجود اضطرابات خاصة في سوريا ولبنان، وظهور ميليشيات مسلحة كعامل من غير الدول، مثل «حزب الله» و«حماس» وتنظيمات أخرى عابرة للحدود، اضطرت إسرائيل لتطوير سيناريوهات مواجهة تمزج الضربات الجوية باستهدافات استخباراتية معقدة. لكن هذا التكيف لا يخفي قلقاً متزايداً من أنها تحاول استغلال الانفلات الأمني على حدودها، خاصة من الجنوب السوري، حيث المشهد بات مفتوحاً أمام فصائل وميليشيات قد تجد في الفراغ الأمني فرصة لضرب أهداف داخل إسرائيل. وبات واضحاً أن الاستراتيجية الإسرائيلية الحالية تجاه سوريا لا تقتصر على احتواء التهديدات، بل تتجاوزها إلى محاولة التأثير على تركيبة البلد السياسية والطائفية، عبر استهداف مناطق بعينها مثل الجنوب السوري والسويداء.
ورغم أن هذا قد يُفسر كجزء من السياسة الدفاعية، إلا أن السياسات والخطوات التي تدعم تفكك الدولة السورية على أسس طائفية قد يأتي بنتائج عكسية، هذا التوجه الإسرائيلي، محل انتقاد خليجي وعربي، ولا يخدم أمن سوريا في الداخل والخارج، ولا يخدم جوارها الجغرافي وبالذات لا يخدم الأمن الإسرائيلي، على المدى القريب والبعيد، بما في ذلك فتح الباب أمام فصائل متطرفة قد تُهدد أمن إسرائيل ذاته، كما حدث في جنوب لبنان في عقود سابقة. صحيح أن إسرائيل نجحت في توسيع دائرة علاقاتها مع دول عربية عبر «الاتفاقيات الإبراهيمية»، إلا أن الواقع الإقليمي أثبت أن سياسات إسرائيل لا تساعد على تطوير هذه الاتفاقيات لتجعلها تحالفاً استراتيجياً طويل المدى.
التوترات المتجددة في غزة، والحرب الأخيرة في لبنان، وتصاعد الأصوات المعارضة في الداخل العربي، كلها عوامل تضعف من فاعلية هذه التحالفات، وتحد من قدرتها على إنتاج نموذج إقليمي مشترك للأمن أو التنمية. وإذا كانت إسرائيل ترى نفسها فاعلاً إقليمياً أساسياً، فإن استمرارها في اتباع سياسات منفصلة عن السياق الإقليمي، بل ومعارضة له أحياناً، لن يخدم مصالحها على المدى البعيد. وضمن هذا الإطار يمكن استنتاج أن العمل على إضعاف سوريا من خلال تشجيع نزعات انفصالية داخلها، أو احتلال مزيد من أراضيها، قد يفتح المجال لفوضى ستسفر عن خطر يطال الداخل الإسرائيلي، خاصة مع عجز التحالفات الخارجية عن ضمان أمن دائم للدولة العبرية.
ووسط هذه المعادلات المتشابكة، يبقى الوعي الشعبي، من سُنّة ودروز ومسيحيين وعلويين، هو الجدار الأخير في وجه مشاريع التقسيم والهيمنة. وشعوب المنطقة تدرك اليوم أن الصراعات الطائفية تخدم أعداء الداخل والخارج، وأن الأمن الحقيقي لن يأتي من الهيمنة، بل من التعاون، والتكامل، والتفاهم على أسس المصالح المشتركة، لا التفرد في القرار.
نقلا عن صحيفة الاتحاد
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة